محمد بن عيسى الكنعان
«دول الاستكبار العالمي، الكفر الدولي، الشيطان الأكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل»، هذه أبرز الشعارات التي رددها الإيرانيون وعملاؤهم في المنطقة العربية - ومازالوا - منذ اندلاع ثورة الخميني عام 1979م، التي يسمونها: (ثورة المستضعفين). حتى ترتب على هيجان تلك الثورة احتلال
السفارة الأمريكية بطهران، واعتبارها وكرًا لاستخبارات الشيطان الأكبر تُدير من خلالها نظام الشاه رضا بهلوي الحاكم آنذاك. ولأن سيناريو الثورة الخمينية جاء مختلفًا بعض الشيء عن كثير من الثورات الشعبية العالمية، التي سبقتها، خصوصًا أنها لعبت على وتر العاطفة الدينية، فقد انخدعت الشعوب العربية بشعاراتها الثورية، وغرتها أهدافها المعلنة، التي لا تختلف في حقيقتها عن أهدافها المبطنة في مشروع الهيمنة الصفوي، الذي كان يراود إسماعيل الصفوي لولا الله ثم الدولة العثمانية، التي وقفت سدًا منيعًا ضد أطماعه.
بالفعل انخدعت الشعوب العربية بالثورة الخمينية، فقد جاء الخميني وهي تتطلع إلى (البطل المخلص) ليصنع لها (مجد الانتصار) على إسرائيل، خاصة مع إعلان الخميني دعمه الكامل لجهاد الشعب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني، فقام بقطع العلاقات مع إسرائيل، وتحويل سفارتها بطهران إلى سفارة فلسطين في أول يوم بعد الثورة. الخدعة الإيرانية التي كانت تُخفي تحت عمامتها (تصدير الثورة)؛ لم تتوقف عند هذا الحد؛ بل عملت على بناء تحالف قوي مع نظام الأسد في سوريا؛ للوقوف في وجه إسرائيل كما يُعلن، من خلال إنشاء حركات وأحزاب مقاومة مثل ما يسمى (حزب الله)، كما حاولت تأسيس جماعات موالية لها في دول الخليج، خاصة بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، ووقوف حكومات الدول الخليجية خلف العراق، ما منح إيران فرصة التظاهر السياسي بالعداء العلني للغرب، وأنها الدولة المحورية في المنطقة الإسلامية، التي تتصدى للأطماع الغربية، فواصلت ترديد شعارات: (الشيطان الأكبر، والاستكبار العالمي، والموت لأمريكا) في العلن، ومحاولة تصدير الثورة بالخفاء.
وبعد العدوان الغاشم على الكويت ثم تحريرها، وذهاب العرب إلى مؤتمر مدريد للسلام، وما تبعه من اتفاقيات مع إسرائيل مثل (أوسلو)، نشطت إيران أكثر في المحافل العالمية، وهي تخاطب الشعوب العربية بلغة عاطفية عن وقوفها في وجه السياسات الغربية بالمنطقة العربية، وبالذات الأمريكية، الهادفة إلى تكريس المشروع الصهيوني والسيطرة على منابع النفط، وبالذات في منطقة الخليج (الفارسي) كما يسميه الإيرانيون في نوافذهم الإعلامية وبياناتهم السياسية.
لكن هذا العداء الإيراني (التمثيلي) لم يستمر؛ خاصة بعد انطلاق ما يسمى الحرب الدولية على الإرهاب العام 2001م، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث شكلت هذه الحرب (أولى الخطوات) لمد الجسور بين الإدارتين الأمريكية والإيرانية، خاصة بعد اجتياح أمريكا لأفغانستان واقتراب (الشيطان) من حدود إيران، التي سمحت للطائرات الأمريكية بالمرور من الأجواء الإيرانية؛ لضرب حركة طالبان (السنية السلفية)، حتى تمكنت إدارة (بوش الابن) من إسقاط نظامها السياسي، ما مكن للإيرانيين من لعب دور أكبر في أفغانستان، من خلال حزب (الوحدة) الشيعي. غير أن الثمرة الإيرانية نضجت تمامًا بالنسبة لتصدير الثورة بعد الغزو الأمريكي للعراق العام 2003م، فبالرغم من أن المخدوعين بالشعارات الإيرانية كانوا يتوقعون أن تعارض إيران هذا الغزو؛ لأنه ببساطة يمثل تهديدًا عسكريًا لنظامها وخطرًا جغرافيًا على وحدة أراضيها، خصوصًا أن القوات الأمريكية موجودة في أفغانستان، ما يعني أن إيران ستقع في الكماشة الأمريكية.
لكن الذي حدث هو العكس؛ فدول الخليج التي تعتبر حليفًا إستراتيجيًا لأمريكا رفضت العدوان على العراق حتى لو كان لأجل تغيير نظام صدام، وفرض الديمقراطية، وإطلاق الحريات؛ بينما دولة الملالي، والشعارات الدينية الرنانة تبارك ذلك، بل تشترك في عدوان (الشيطان الأكبر)، بطريقة زواج المتعة السياسي، حيث تم تسهيل عودة المعارضة العراقية الموجودة في إيران على ظهر الدبابة الأمريكية العام 2003م بعد احتلال بغداد. ثم كان انخراط كل التنظيمات والأحزاب الشيعية، وبدعم من إيران في العملية السياسية الأمريكية، والامتناع عن المقاومة بعد فتوى المرجع السيستاني. ولك أن تتخيل حكومة عراقية شيعية موالية لإيران وعميلة للأمريكان. فهل هذا كافٍ لبدء صفحة جديدة من العلاقات الأمريكية الإيرانية؟ بحيث تتحول من السرية إلى العلن، ومن تعاون المضطر إلى تحالف إستراتيجي، الجواب: ليس كافيًا! لسببين، الأول الملف النووي الإيراني، الذي مضى عليه أكثر من عشر سنوات في مفاوضات النفس الطويل. والآخر الدور الإيراني القوي في سوريا بعد العراق.
من هنا، وفي العام 2014م، يستيقظ أبناء الخليج على انكشاف لقاءات ومفاوضات سرية بين الإيرانيين والأمريكيين برعاية عمانية لمدة عام، كانت التمهيد الطبيعي للاتفاق الإيراني - الغربي الأخير حول الملف النووي الإيراني، الذي بموجبه تنازلت إيران عن كثير من شروطها مقابل رفع العقوبات. بالرغم من أنها سوقت في إعلامهم على أنه نصر سياسي إيراني. فما الذي تغير؟ لماذا الشيطان الأكبر (أمريكا) في أدبيات الثورة الإيرانية صار في (محور الشر)، الذي يضم حسب تصنيف الإدارة الأمريكية: إيران إلى جانب العراق وكوريا الشمالية. لماذا الشيطان اختفى من التفاصيل الإيرانية؟ ولماذا صار محور الشر عند الأمريكان مركزًا للشر اسمه كوريا الشمالية فقط؟ هل تغيرت مفاهيم السياسة؟ أم هل تبدلت القيم الليبرالية الغربية؟ أم أن تراث الخميني الثوري مجرد أكذوبة؟ وأن الشعب الإيراني أكبر مغفل لابتزاز لقمة عيشه بشعارات ثورية؟ لهذا ينبغي أن يفهم العرب أن السياسة لا توجهها الشعارات، فهي لدى الغربيين محكومة بالمصالح. واليوم رأى الفرس أن يتقاسموا النوم مع الشيطان الأكبر. ورأى الغرب وبالذات الأمريكان أن يكونوا في محور الشر الإيراني.