د. محمد البشر
التاريخ يفترض أن يكون حقيقة, لكن ليس بالضرورة أن يكون كذلك, فهناك من نقل ما يعرف بصدق, وهناك من كان صادقاً فيما نقل, لكن ليس ما وصل إليه يجسد حقيقة الواقع, وهناك من تغلب عليه أهوائه فيفسر ما نقل بما تجبره نفسه على اتباعه, وهناك من يحرف متعمداً اتباعاً للهوى أو المال, كما أن البعض قد يحذف مما يسمع ما لا يتفق مع هواه, مع أنه قد صدق فيما قال, وليس نقل كل ما سمع. والبعض قد يجير حادثة نبيلة إلى من يحب أو يرغب أن ينافق له, كما أن التاريخ لم يخلو ممن اختلق روايات تاريخية, رغبة في بث ما يريد إيصاله إلى معاصريه, أو من يأتي بعدهم, ومهما يكن فليس لنا إلاّ أن نقرأ ما وصل إلينا من العصور السالفة, فهي المتوفرة, ولكل امرئ أدواته في التمحيص, وقبول الرواية أو رفضها, طبقاً لما تراكم في عقله الظاهر والباطن من معتقدات, وما يحمل من مؤثرات قبلية أو سياسية أو قطرية, وهناك من يظهر قبوله لرواية بعينها مع أنه قد يرى في داخله غير ذلك, وقد يكون دافعه إلى ذلك طمعاً في مال أو جاه, أو خوفاً من تأنيب أو عقاب. لكن في نهاية الأمر فالتاريخ لدى القارئ المتدبر لا يمكن أخذه كله وإن حسن جله, إلا بعد جمع الشواهد والاجتهاد في الوصول إلى الحقيقة بعد الدراسة الذهنية قبل العلمية.
وعلى سبيل المثال, هناك من يرى أن كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني, كان كتاباً افترى قصصه أبو فرج, رغم أنه يورد الرواية متسلسلة إلى المصدر, كما أن في كتاب تاريخ الأمم للطبري, وكذا البداية والنهاية لابن كثير, الكثير من المعلومات التي أتوقف عندها كثيراً, هذا مع العلم أن ابن كثير قد نقل عن الطبري كتابه, وأضاف إليه الحقبة اللاحقة, مع شيء من التصرف. وغير ذلك كثير, فالغالب أن الرواية التاريخية ذات مصدر واحد, كانت حقيقة أو ابتدعها مبتدع, ثم تناقلها المؤرخون عبر العصور بالصور التي يرونها مناسبة.
وفي الأندلس نقل شيخ المؤرخين ابن حيان في كتابه المميز» المقتبس» الكثير من تاريخ الأندلس, دون مواربة ظاهرة أو مجاملة متعمدة, ولحقه ابن بسام في كتابه المشهور» الذخيرة « إلاّ أن ابن بسام يختلف عن ابن حيان, وهو الذي جاء بعده, فهو قد كتب كتابه بعد أن رأى أن أهل الأندلس يرون تفوق أهل المشرق عليهم, فحاول إظهار قدرات الأندلسيين النثرية والشعرية, فأفادنا رحمه الله فائدة كبيرة, وحفظ لنا تراثاً قيماً, وقد نقل الكثير من كتاب المقتبس لابن حيان, ولأن كثيراً من أجزاء كتاب المقتبس قد فقدت, فقد حفظ لنا ابن بسام وغيره الكثير مما فقد من ذلك الكتاب القيم, والشاهد في هذا الإيراد أن ابن بسام كان ميالاً لأهل الأندلس, متحاملاً على أهل المغرب, بدافع الانتماء الثقافي, والعصبي والوطني.
وهناك من الكتب ما تختلط فيها الرواية بالتاريخ, وكتاب الحروب الأهلية في غرناطة لمؤلفه بيريت دي إيتا, مثال على ذلك, فهو يتحدث عن قصص روائية اختلقها وجسدها بوقائع أندلسية غرناطية في السنوات الأخيرة من عمر الاندلس المديد, وهو يحكي حروب بين الأندلسيين المسلحين والأسبان النصارى, وكذا الحروب الأهلية والمنافسات القائمة بين أسرة بني نصر الحاكمة, أو بين الأسر المتنافسة, مثل أسرة بني سراج, وأسرة الثغري, وأسرة العباس, وأسرة غمارة, وأسرة مياس, وغيرهم من الأسر.
والحقيقة أن التنازع كان موجوداً بين أولئك النفر في ذلك العصر, حتى أن النزاع قد حدث بين أبي الحسن وابنه أبي عبدالله الصغير, آخر ملوك غرناطة والاندلس, وكذا بين أبي عبدالله الصغير وعمه الزغل, فما بالك بالتنافس بين الاسر النافذة, في ذلك المشهد المؤلم حقاً لأفول نجم الاندلس الساطع علماً وثقافة وروعة وبهاء, ولا ننسى تدخل النساء, مثل تلك السيدة السبية التي تزوجها ابو الحسن, ونزاعها مع عائشة الحرة, أو كما يسميها البعض فاطمة الحرة, لكن هل أصاب أبا الحسن في فترة حياته قبل طرده من قبل ابنه ما عناه صاحب كتاب الحروب الأهلية في غرناطة على لسان الفتاة الجميلة جلياته مخاطبة حبيبها بقولها: ليس شيئاً عجيباً أن يستسلم الرجال للمرأة منذ النظرة الأولى , ثم يكتشفون بعد ذلك عناءه ومشقتهم, لكن ما هو أعجب من ذلك أنهم يفقدون حبهم رويداً رويداً بعد الأيام الأولى, لهذا فلا تصدق كلامهن أو وعودهن»
لا أعلم هل ذلك خاص بالرجال, أو أن ما قد يقع على الرجال قد يقع على النساء, وربما يكونون في ذلك سواء, والشاهد على الرجال بحثهم عن زوجات أخريات, والشاهد على المرأة عدم اهتمامها بزوجها. هذا عند البعض أما الغالب فهم في منأى من ذلك, جعلنا الله منهم جميعاً.