د. محمد البشر
وزير من وزراء الأندلس البارزين في العصر الأموي، وهو من سلالة أسلم بن أبان بن عمرو، مولى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وقد كان أسلم من أجلاء فقهاء الأندلس.
وقد كان مقرباً من الأمير محمد بن عبدالرحمن بن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل حاكم الأندلس، وله مكانة خاصة لديه، واجتمعت فيه خصال لم تجتمع في سواه من أهل زمانه، فقد كان فارساً، جواداً، كريماً، قريباً من قلوب سكان الأندلس، مع حظ وافر من البلاغة، والبيان، وجزالة الشعر. وقد تم أسره من قبل النصارى في إحدى المعارك، لكن الأمير محمد بن عبدالرحمن افتداه بمال كثير، وقد لبث في الأسر نحو سنتين.
ساس الأمور بحصافة، وكياسة، وحنكة، وحكمة، وولاه المنذر بن محمد الذي تولى حكم الأندلس بعد أبيه الحجابة، لكن المنذر غير والده، وقد أصغى إلى منافسيه وأعدائه، مثل محمد بن جهور وعبدالملك بن أمية، مع أن الوزير هشام هو الذي قرأ على الناس وصية تولية المنذر، لكنه كان يبكي كلما يمر اسم محمد بن عبدالرحمن، فنظر إليه المنذر نظرة مريبة، واستغلها المنافسون وأوغروا صدر الحاكم الجديد معللين بكاءه بكرهه وخوفه من المنذر.
ولما وضع الأمير محمد بن عبدالرحمن في القبر، ألقى هاشم رداءه وقلنسوته ودخل القبر وبكى بكاء شديداً، ثم قال متمثلاً لقول أبي نواس في الأمين:
أعزي يا محمد فيك نفسي
معاذ الله في المحن الجسام
فهلا مات قوم لم يموتوا
ودوفع عنك لي كاس الحمام
بعد ثلاثة أشهر من حكم المنذر أرسل إلى حاجبه هشام أحد الفتيان للقبض عليه، وكان عنده في تلك الليلة بعض من زواره، فلما رأوه وقد قبض عليه اندفعوا مستهلين بالشكر، وكان فعلاً قبيحاً أنبهم عليه الفتى المرسل من الأمير، وقد قبض على أكبر أولاده، وتم حبسه أيضاً، وبقي في الحبس، واستمر المنافسون في تأليب الأمير عليه، فزاد كرهاً له، واستعانوا بالسيدة أخت المنذر التي كانت كارهة له عهد والدها، والواقع أن مثل تلك الأحداث تقع في العصور التي مضت، وكانت في العصر الأموي والعباسي ومن بعدهم، وكذلك في الأندلس التي زخرت بالكثير من تلك القصص المؤلمة.
وفي إحدى الليالي قرر الأمير المنذر قتله، والتخلص منه، لا سيما أن سمعته الطيبة قد سارت بها الركبان، فخشي منه، وبعد قتله وضعت جثته ورأسه في ثوب وأرسل إلى أهله.
وقد كتب في حبسه بعضاً من الشعر مثل تلك القصيدة التي كتبها لإحدى جواريه بعد أن حن لها وأخذه الشوق إلى لقائها، وهي قصيدة طويلة لعلنا نورد شيئاً منها:
وإني عداني أن أزورك مطبق
وباب منيع بالحديد مضبب
فإن تعجبي يا عاج مما أصابني
ففي ربيب هذا الدهر ما ينعجب
حقاً أن في الدهر من الأعاجيب ما يشيب له الرأس، فقد كان هذا الرجل المميز ذا جاه، ومال، وسطوة، وهو من دوخ النصارى وردهم على أعقابهم في مواقع كثيرة، وقد حمى الديار، وحافظ على حكم بني أمية في زمانه، وأمن للمنذر انتقالاً سهلاً واحتفظ بالوصية، وأظهرها في وقتها.
واسترسل في تلك القصيدة قائلاً:
وفي النفس أشياء أبيت بغمها
كأني على جمر الغضا اتقلب
تركت رشاد الأمر إذ كنت قادراً
عليه فلاقيت الذي كنت أرهب
حقاً لقد كان هذا الرجل المميز يحمل في نفسه الكثير من الأشياء التي يبيت بغمها، وقد لام نفسه على ترك قرارات كان يستطيع أن يتخذها لكنه في الواقع لم يفعل فنال ما كان يخشاه، ولا أحد يعلم ماذا يعني بما يقول، فقد مات بسره، ثم أردف قائلاً:
سأرضى بحكم الله فيما ينوبني
وما من قضاء الله للمرء مهرب
فمن يك مسروراً بحالي فإنه
سينهل في كأسي وشيكاً ويشرب
وكان صديقاً للوزير الوليد بن غانم، فكتب له من أسره:
فكم غصت بالدمع نهنهت خوف أن
يسر بما أبديه شنان كاشح
تحاملت عنه ثم نادمت في الدجى
نجوم الثرياء والدموع سوافح
مسكين هذا الوزير فهو لا يخرج دموعه حتى لا يسر مبغضه، لكنه عندما يجلس وحيداً تنهمر دموعه سحاً، لتخفف عما في قلبه من ألم، فهو يعلم أن قتله قادم، وكم تذكر في تلك اللحظات أولاده، وزوجاته، وجواريه، وخدمة، وجاهه وعزه، ونهيه وأمره.
وقد كتب له أحد أبنائه نثراً وشعراً ضعيفاً في السبك واللفظ والبناء، فلم يرق له شعر ابنه، ولم يستحسنه، فوقع على رقعة ابنه ببيتين من الشعر:
لا تقل أن عزمت إلا قريضاً
رائقاً لفظه ... ثقيفاً رصينا
أو دع الشعر، فهو خير من الغث، إذا لم تجد مقالاً سميناً
بالله عليكم كم من الشعر الغث في عصرنا الحاضر، وكم من وسائل إعلام تزخر بشيء من الشعر غير المقبول.
ولعلنا نختم الحديث عن الوزير المميز الذي كانت خاتمته مؤلمة، بأبيات من الشعر قالها في بلده البيرة، إحدى مدن الأندلس التي لم يكن راغباً فيها، فيقول:
إذا نحن رحنا عنك يا شر بلدة
فلا سقيت رباك صواب الرواعد
ولا زال سوط من عذاب منزل
على قائم من ساكنيك وقاعد