د. محمد البشر
توفي في المغرب الشقيق قبل أيام, عالِمٌ من علماء المغرب بعد عمر مديد ناهز الخامسة والتسعين, وهو الأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي, واسمه يغني عن التعريف به, لكن من نافلة القول أن نمر بإلمامة عن رجل خدم العلم والسياسة.
ولد الدكتور عبد الهادي عام 1921م, وتعلم القرآن وحفظه في سن مبكر كعادة أهل عصره من الطامحين إلى نيْل العلم, وبعد ذلك التحق بالمدرسة النظامية ومنها إلى جامعة القرويين بفأس, وكان ذلك عام 1947م, وبعد ذلك انتقل إلى جامعة محمد الخامس, وحصل منها على شهادة الماجستير وتُسمى دبلوم الدراسات العليا, وكان هذا المسمى قائماً منذ عصر قريب, حتى استبدل بمسمى الماجستير, وذهب إلى مصر لإتمام دراسته هناك, فنالَ شهادة الدكتوراه من جامعة الإسكندرية, وكانت أطروحته حول جامعة القرويين.
وقد تقلَّد عدة مناصب, منها سفير للمملكة المغربية بالعراق, وقد كانت له قصص وطرائف هناك, سرد علي بعضها, ثم عمل سفيراً للمغرب في ليبيا, وكانت له كذلك قصص طريفة مع حاكمها آنذاك معمر القذافي, وألّف مؤلفاً عن ليبيا أذكر أني كتبت مقالاً عنه, وعمل سفيراً للمغرب في إيران بتكليف شخصي من الملك الحسن الثاني, وكانت المهمة حساسة جداً, حيث كانت الثورة الخمينية, وقد ورثت العرش الساساني العريق, وكان آخر ملوكهم الشاه محمد بهلوي, قد أدى به المطاف للعيش في المغرب, وكان مستغرباً أن يقبل الخميني سفيراً لدولة يعيش شاه إيران فيها لاجئاً, لكن فيما يبدو أن عبد الهادي التازي قد تعرف على الخميني أثناء وجوده سفيراً في العراق, ووجود الخميني لاجئاً هناك, وفي نهاية الأمر فقد غادر الشاه المغرب, أثناء وجود الدكتور عبد الهادي سفيراً هناك, وبعد ذلك عُيّن مكلفاً بمهمة في القصر الملكي, وهو منصب يُمنح لبعض الشخصيات التي قد يحتاجها الملك للاستشارة أو تنفيذ أمر معين, وظل في هذا المنصب حتى وفاته.
وله مؤلفات عديدة زادت على الثلاثين مؤلفاً, وفي مشارب مختلفة, دينية, ولغوية, وتاريخية, وأدب الرحلات, والسياسة وغيرها, ولعل تحقيقه لكتاب الرحالة المشهور ابن بطوطة, قد لقي رواجاً كبيراً في الأوساط العالمية, وهو الذي تُرجم إلى لغات عديدة, كما حقق الدكتور عبد الهادي عدداً من الكتب الأخرى, مثل كتاب المن بالإمامة لابن صاحب الصلاة, وهو كتاب بديع فيه فوائد كبيرة, لا سيما فيما يخص تاريخ الأندلس, وغيره من الكتب, وله ترجمات عديدة أخرى.
وقد ألَّف كتيباً سمّاه قنوت الجو, وهو مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة والأدعية والأحاديث النبوية الشريفة ذات العلاقة بالسفر, واجتهد في جمعها لاستخدامها في السفر, وقد دعاه إلى ذلك قصة حدثت له في إحدى رحلاته الجوية مع غير معتنقي الإسلام.. وفي آخر حياته ألَّف كتاباً عن الدبلوماسية المغربية, في خمسة عشر مجلداً, وخصص مجلداً للمرأة ودورها في الدبلوماسية المباشرة وغير المباشرة, منذ ما قبل الإسلام حتى العصر الحديث, وضرب أمثلة كثيرة لذلك, مثل كليوبترا, وأولئك النساء اللاتي أثّرنَ في الحياة الدبلوماسية والسياسية, في العصور المتتالية في المغرب في عهد الأدارسة, والمرابطين, والموحدين, والوطاسيين, والسعديين, انتهاءً بالعلويين ملوك المغرب في الوقت الحاضر, وضرب مثلاً بخناثة العلوية التي راسلت ملوك فرنسا, وهولندا, وغيرهم من قادة العالم, والسيدة خناثة لها باعٌ طويل وقد تم ترميم مسجدها بالرباط قبل نحو ست سنوات من قِبل الملك محمد السادس, وقد كنت حاضراً ذلك مع الدكتور عبد الهادي التازي الذي أوضح الكثير عن تاريخ هذا المسجد, ودور السيدة خناثة.
وقد صاحب الدكتور عبد الهادي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - في بعض رحلات القنص في المغرب, وكان الملك عبد الله - رحمه الله - وفياً مع الدكتور عبد الهادي التازي، وحريصاً على إكرامه عند كل زيارة للمغرب, كما أنه قد تشرف بالسلام على خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز, أكرمه الملك سلمان - حفظه الله -, وقد طلب مني أحد المؤرخين المعروفين بالمملكة بعض المعلومات عن موضوع معين, فكان هو المرجع الموثوق الذي أمدّني بما تم طلبه.
كان قريباً من القصر الملكي بالمغرب في زمن الملك محمد الخامس, والملك الحسن الثاني, والملك محمد السادس, وقد كانت له طرائف في حضور الملك محمد الخامس - رحمه الله -, والواقع أنه وعاءٌ واسعٌ من المعرفة بالكثير من المعلومات الخاصة التي لا يبوح بها إلا لمن يثق بهم.
لقد كان شديد العزم, فظل يسافر ويشارك في المؤتمرات في أصقاع الأرض, رغم مرضه وكبر سنه, فقد كان يسافر إلى الصين لحضور المؤتمرات وقد تجاوز التسعين, وشارك عدة مرات في مهرجان الجنادرية, وحضر العديد من المؤتمرات في فرنسا التي يتقن لغة أهلها, وترجم عدداً من كتبهم إلى اللغة العربية, وسافر إلى شمال أمريكا وجنوبها, ومعظم الدول الأوربية, ويحرص كل الحرص على المساهمة العلمية الفاعلة في المؤتمرات, وحضور المناسبات وتلبية الدعوات.
رحمَ الله الدكتور عبد الهادي التازي, ورحمَ جميع موتى المسلمين, وجعل الجنة مثواهم, وغفر ذنوبنا وذنوبهم.