د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
أعادني مقال الدكتور عبدالعزيز السماري المنشور بهذه الصحيفة في 26-6-1436هـ تحت عنوان (لماذا يفشلون في وزارة الصحة) إلى هذه الوزارة التي عشت في أجوائها ما يقارب خمسة وثلاثين عاماً، وشاركت - في حدود ما أسند إليّ من أعمال - في سلبيّاتها وإيجابيّاتها.
إن التحدي الأكبر الذي واجهته وزارة الصحة تمثّل في كون جهودها موزّعة ومشدودة بين مهامّ عديدة ومتنوعة، أنيطت بالوزارة مسؤولية القيام بها وإدارتها والصرف عليها، فهي تصرف المسؤولين القياديين عن التركيز على الأولويات وتشغلهم بالمهمات والمعاملات اليومية وإطفاء الحرائق الناجمة عن مشكلات العمل اليومية. ومن مسؤولية الوزارة ما يلي:
- تقديم الرعاية الطبية في أكثر من (260) مستشفى لحوالي مليون وسبعمائة ألف مريض منوّم واثني عشر مليون مراجع للعيادات وعشرين مليون مراجع للطوارئ، وفي (2260) مركزاً صحياً لثلاثة وخمسين مليون مراجع سنويّاً. ويستظلّ بهذه الرعاية المجانية أيضاً من يرغب من أفراد وأُسَر القطاعات العسكرية، ومن السعوديين الذين يغطيهم التأمين بالقطاع الخاص. يضاف لذلك المسؤوليات الجسيمة في مكافحة الأمراض المعدية والوبائية وتوفير اللقاحات.
- إعداد المواصفات والطرح والترسية وإبرام العقود لتوفير الأدوية والتجهيزات وتوزيعها وتخزينها، وكذلك لعمليات التغذية والتشغيل ولمشاريع الإنشاء ومتابعتها.
- العناية بصحة الحجاج وتوفير الأدوية والأجهزة وعشرين ألف طبيب وفني وإداري.
- الترخيص بافتتاح وتشغيل المرافق الصحية الخاصة ومراقبتها - زهاء (2300) مجمع طبي وعيادة خاصة، و(137) مستشفى، و(7000) صيدلية.
- تحويل المرضى ودفع تكاليف علاجهم في الخارج وفي القطاع الخاص (في الداخل).
- اتخاذ الإجراءات النظامية في المخالفات الإدارية والفنية والأخطاء الطبية، وتنظيم أعمال اللجان والهيئات الصحية الشرعية.
- أعمال الطب الشرعي والكيمياء الشرعية.
- نقل معظم مهام الصحة المدرسية لوزارة الصحة ومن بينها تعيين ممرضين بالمدارس.
- توظيف وتوجيه وتدريب ومتابعة عشرات الآلاف من القوى العاملة الفنية والإدارية.
هي مسؤوليات ضخمة ومتعددة ومتشعبة، معظمها يخضع لنظام مركزي إدارياً ومالياً. وعلى سبيل المثال: لا يتم اعتماد ميزانية مستقلة للمستشفيات مثلاً (حفاظاً على وحدة الميزانية)، ولا يؤخذ بمبدأ ميزانية البرامج بدلاً من البنود. إن النتائج المنطقية للنظام المركزي تتمثٌل فيما يلي:
- تعدّد مستويات الإشراف الإداري الذي يؤدّي بالضرورة إلى تضخّم الهيكل الإداري وأعداد الموظفين وتجزئة المسؤوليات.
- يترتب على ذلك مزيدٌ من المركزية ونشوء البيروقراطية التي تتصف بتعدّد خطوات الإجراءات وبطء في اتخاذ القرار وتنفيذه.
- النظام المركزي يجعل الوحدات التنفيذية في المناطق متعلقة بما يصدر من الجهة المركزية ومتّكلة عليها؛ وهذا يحدّ من جدوى الصلاحيات المعطاة، وفاعليّة مراقبة الأداء، ومن الحافز للمبادرة، ويحوّل الاهتمام إلى إنجازات الجهة المركزية بدلاً عن أداء المرافق الصحية التي هي موضع اهتمام المواطنين.
إن المركزية في الإدارة والتنظيم نشأت في ظروف معينة مثل شح الموارد وندرة الكفاءات ومحدودية الخدمات وقلّة الخبرة. وتغيرت الظروف، ولكن بقيت المركزية لأنها تحوّلت إلى إجراءات نظامية راسخة في بيئة العمل لا يزيحها تغيّر الأشخاص في أي مستوى، بل تغيّر الأنظمة في ضوء استراتيجية جديدة وأهداف واضحة، يعقبها تدريب الأشخاص وتوجيههم للتكيّف مع بيئة العمل الجديدة. وهذا هو المعنى الصحيح لإدارة التغيير. إن وصفة النجاح لهذا التغيير موجودة، ولا ينقصها إلا إرادة - وليس إدارة - التغيير، التي تُخرج الوصفة من الأدراج.
أما الموجود من محتويات الوصفة فهو:
- مواد النظام الصحي (صدر عام 1423هـ) وأسس الإستراتيجية العامة للرعاية الصحية بالمملكة (اعتمدت عام 1430هـ) المبنية على هذا النظام حدّدت دور واختصاصات وزارة الصحة بمسؤوليتها عن ضمان توفير الرعاية الصحية بمستوياتها المختلفة بصرف النظر عمّن يقدمها، ووضع الإستراتيجية والخطط اللازمة لذلك، وتنظيم وتنفيذ برامج مكافحة الأمراض المعدية والوبائية، ووضع تنظيمات الترخيص للمؤسسات الصحية الخاصة وتداول الأدوية، والتأكد من الممارسة الصحيحة للمهن الصحية وجودة الخدمات الصحية، ونشر الوعي الصحي، وضرورة الأخذ بمنهج اللامركزية في الإدارة - وعلى الأخص تفويض الصلاحيات والمهام للقيادات المحلية، وتطوير إجراءات العمل بما يحقق المرونة اللازمة لاتخاذ القرارات التنفيذية، واعتماد ميزانية تشغيلية مستقلة لكل منطقة صحية ومستشفى رئيسي مع إدارته ذاتياً.
- التأمين الصحي الذي تبنّته الدولة في كلٍّ من النظام والإستراتيجية كوسيلة للتمويل الصحي من شأنه في حال التطبيق الشامل - الذي لم يتقرّر بعد -أن ينظّم ويرشّد استخدام الرعاية الصحية والإنفاق عليها، ويتيح مراجعة المواطنين للقطاع الصحي الخاص، ويفصل بين مهام تمويل الخدمات وتقديم الخدمات، ممّا يزيح كثيراً من الأعباء الإدارية والتنفيذية عن الوزارة ويمكّنها من تطبيق اللامركزية، وأداء دورها التخطيطي والرقابي والتشريعي في الرعاية الصحية.
- الشركة الوطنية للشراء الموحّد التي تأسّست بمرسوم ملكي عام 1428هـ، بعد دراسة وتوصية رفعها للمقام السامي مجلس الخدمات الصحية تهدف للقيام بجميع عمليات توفير احتياجات الجهات الصحية الحكومية من الأدوية والتجهيزات، فتزيح عنها أعمالاً إدارية تتطلب جهداً ووقتاً وزيادة في عدد موظفي المشتريات والتموين والمستودعات، وفوق ذلك تقلّل الهدر المالي. هذا لو كانت الشركة تمارس كل صلاحياتها واختصاصاتها، لكنه لم يفسح لها من ذلك إلا أقل من 20%.
- انتهت الوزارة قبل عامين تقريباً من إنشاء المختبر الصحي الوطني بالرياض، وأقرّ مجلس الوزراء قبل عامين أيضاً إنشاء المركز السعودي لمكافحة الأمراض (على غرار مركز مكافحة الأمراض في أمريكا). ولو تم تشغيل هذين المشروعين، فإنه سيتوافر فيهما تقنية عالية وخبرات علمية واستقلالية فنية غير بيروقراطية، ويحققان للوزارة طفرة كبيرة في التعامل المبكر والمهني مع الأمراض الوبائية وتشخيصها والسيطرة عليها.
إن ما ورد آنفاً يبيّن أن الأساس النظامي والتقني لتفعيل دور وزارة الصحة - كما هو محدّدٌ في النظام والإستراتيجية - موجود، وأنه لا حاجة لاختراع العجلة من جديد. يكفي أن توجد الإرادة الحازمة لتنفيذ مواد النظام والإستراتيجية المشار إليهما، لتدخل الخدمات الصحية في عصر جديد.