البداية تنطلق من الغلاف الجميل لكتاب الأستاذ محمد القشعمي (المرأة في المملكة العربية السعودية: كيف كانت وكيف أصبحت) الذي صدر في أول هذا العام 1436هـ، فقد تزيّن بباقة من الورد نصفها مغطَّى بغلالة رقيقة حجبت اللون الطبيعي، والنصف الآخر أسفر عن اللون الطبيعي الجميل. إنها صورة معبرة حقاً عن ماضي المرأة وحاضرها. القسم الأول من الكتاب مخصّص للحديث عن الحقبة السابقة على فتح مدارس البنات عام 1380هـ (130صفحة). هذه الحقبة لم تكن عقيمة، بل كانت حبلى وأثمرت الجنين الذي ولد في ذلك العام. لكن الحمل لم يكن خفيفاً، بل جاهدت خلاله المرأة نفسها وبتعضيد من مفكرين وكتاب أدركوا بثاقب نظرهم ضرورة تعليم المرأة لكي تخرج من ظلام الجهل إلى نور الوعي، وبتشجيع من كثير من رجالات المجتمع.
فقد بذلت بعض النساء في عدد من المناطق جهوداً فردية تطوعية - أغلبها في الحجاز، وبعضها أيضاً في أعماق نجد التي هي المنطقة الأكثر محافظةً تجاه تعليم المرأة. وبدأت تلك الجهود على نطاق محدود قبل تأسيس الدولة السعودية، وتمثلت في شكل كتاتيب تقام داخل البيوت - وهو النمط الغالب - أو في مدرسة خاصة بالبنات، ثم توسعت منذ توحيد المملكة واستمرت حتى فتح مدارس البنات عام 1380هـ.
وما كان لتلك الجهود أن تتم لولا وجود سانِدٍ اجتماعي تمثّل في موافقة قطاعات من المجتمع على تحصيل بناتهن شيئاً من التعليم الأساسي، وفي وجود ناشطات متعلمات - إما وافدات من الخارج أو ممّن تعلّمن في بيوتهن على يد آبائهن أو إخوانهن - يرغبن في التطوع بتعليم بنات جنسهن اقتناعاً بضرورة ذلك للإلمام بأساسيات دينهن وتربية أطفالهن، وأخيراً في وجود الاستعداد لتحمّل تكاليف هذا التعليم - وخاصة من الموسرين.
القابلية لتعليم الفتاة إذن موجودة في البيئة الاجتماعية، ولكنها مطمورة، كما يستنتج من الكتاب. على أن توحيد المملكة وتأسيس هياكل بناء الدولة الموحّدة قد أيقظ الوعي بأن يلازم ذلك بناء العقول، لكي تنهض هذه الدولة وتطير بجناحيها في فضاء العلم والتقدم، مع اليقين بأن ذلك لن يتمّ ونصف المجتمع يقبع في ظلام الأمّيّة. وهكذا بدأت الدعوة الصريحة إلى تعليم الفتاة، يتيمة في أول الأمر، بكتاب محمد حسن عوّاد (خواطر مصرّحة) في عام 1345هـ، ثم اتسعت دائرتها على أيدي مفكرين (عبدالله القصيمي) وكتّاب (أحمد السباعي وعبد الكريم الجهيمان، وآخرين وأخريات) وشعراء (عبدالله بن خميس)، أو من خلال إنشاء المزيد من مدارس تعليم البنات الأهلية بشكل أكثر تطوراً.
ولقارئ الكتاب أن يتصوّر مدى الحذر ومدى العناء الذي يغالب من يكتب عن تعليم الفتاة أو ينشئ مدرسة أهلية في بيئة اجتماعية محافظة، ولكن كان يشجعهم أن القابلية مبذورة في هذه البيئة. غير أن المؤكّد أيضاً أن المسؤولين عن التعليم في المملكة - منذ تأسيس الدولة - كانوا يتابعون هذا التوجه ويرقبون أبعاده ويتأثرون بتزايد قوة تيّاره، حتى رأوا الوقت مناسباً للاستجابة لهذا التوجّه. وفعلاً صدر التوجيه السامي في عام 1379هـ باعتماد فتح مدارس البنات، وفي عام 1380هـ بدأ تنفيذه وتمّ إنشاء رئاسة تعليم البنات، التي وضعت تحت إشراف مفتي عام المملكة، لضمان مسار تعليم الفتاة وفق تعاليم الدين الحنيف.
ومع أن الإسلام يرغّب في تعليم المسلمة كما المسلم، إلا أن تنفيذ القرار أحدث في مدن قليلة ردّ فعل سلبي عنيف، لأسباب زرعتها في أذهان المعارضين أوهامٌ أوحت بها عادات وتقاليد متخلفة ليس لها أساس من الدين.
على أيّة حال، سارت قافلة تعليم الفتاة منذ ذلك الحين بدون توقّف، وتحوّل بعض المعارضين إلى مؤيّدين، بعد أن انهار الحاجز الثقافي وتلاشى الرهاب الاجتماعي.
القسم الثاني من الكتاب (130 صفحة) أورد النماذج الرائدة من النساء السعوديات اللواتي رضعن لبن التعليم من الابتدائية حتى الجامعية وما بعدها من شهادات عليا، وحلّقن في مختلف فضاءات العلم والعمل والإدارة وفنون الأدب والإبداع. تلك النماذج تشهد بقدرات المرأة واستطاعتها - عندما يُفسح لها المجال - على أن تتقاسم مع الرجل أعباء المسؤولية في الحياة العامة وفي خدمة وطنها ومجتمعها- في الحدود التي ترضاها لنفسها وتتقبّلها طبيعتها وتفرضها نوازل العصر.
معلوم أن كثيراً من الحرف والأعمال التي كانت النساء تؤديها في المنزل في أزمان سابقة لتلبّي متطلبات المعيشة الأسرية خرجت من المنزل، وصار يؤديها الرجال في المصانع والمحلات العامة، كما أن أعباء الأم قد خفّت بعد زمن كانت المرأة فيه تعيش منذ زواجها بين حمل وولادة أطفال، يمرض ويموت نصفهم بأمراض الطفولة وسوء التغذية وغيرها، إلى جانب الظروف الحياتية الحديثة، بحيث تحررت المرأة عموماً من كثير من الواجبات التي كانت تفرض عليها بالضرورة أن تكون حبيسة المنزل، ولو بقيت كما كانت بدون تعليم لأصبحت طاقة معطّلة. إلا أن ما حصلت عليه من علم وتدريب مكّنها من إثبات قدراتها على استعادة دورها الاجتماعي التقليدي الذي لم تعد تمارسه بعد أن تغيرت ظروف الحياة، وتقوم به الآن في صورة أخرى، دون أن تهمل دورها الأسري.
لقد وثّق الكتاب بالاسم والمرجع ما تفوّقت فيه المرأة عندما اقتحمت ميادين العمل التي انفسحت أمامها. فقد تفوّقت - على سبيل المثال - في جراحة القلب واستعمال الروبوت الآلي في الجراحة وفي أبحاث السرطان والأبحاث الجينية وعلوم الأدوية، وفي الحاسب الآلي وتكنولوجيا النانو، وفي قيادة التعليم وإدارة الشركات والمنظمات الدولية، بل وفي تسلق قمة إيفرست، وبرزت المرأة في النشاط الأدبي والصحفي والأكاديمي، وفي فن الرسم والتصميم، وحصل كثير من هؤلاء المتفوّقات على تكريم في المحافل الدولية والمحلية.
ومن أهمّ مظاهر التقدير لدور المرأة ولمشاركتها الإيجابية في الحياة العامة اختيار ثلاثين امرأة لعضوية مجلس الشورى. وفوق ما أورده المؤلف من أمثلة حية عن بروز نشاط المرأة السعودية، فقد أورد في خاتمة الكتاب قوائم بأسماء أديبات وشاعرات سعوديات - إمّا نشرت لهن نماذج من أعمالهن في (موسوعة الأدب العربي الحديث)-56 اسماً- أو وردت أسماؤهن في دليل الأدباء بدول مجلس التعاون - 107 أسماء.
الأستاذ محمد القشعمي وضع بين أيدينا - مشكوراً- سجلاً وثائقياً حافلاً بما يبعث على اليقين بأهمية دور العنصر النسائي في تطور مجتمعنا. فعلاً (النساء شقائق الرجال).
- الرياض