د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
الإعلان عن اتفاق إطاري بين إيران والدول الست ينبئ بقرب إبرام اتفاق نهائي تتخلّى بموجبه إيران عن مساعيها لإنتاج القنبلة الذرية، مقابل الرفع التدريجي للعقوبات التي قصمت ظهر اقتصادها. ما يهمنا الآن هو أن نعرف كيف سينعكس هذا الاتفاق على مستقبل العلاقة بين إيران ودول المشرق العربي (الجزيرة العربية والعراق والشام). يحدّد ذلك باعتقادي بحث السؤالين التاليين:
السؤال الأول: هل ستقوم استراتيجية السياسة الإيرانية على أساس بناء امبراطورية الدولة المهيمنة، انسياقاً وراء حلم إعادة التاريخ المندثر للدولة الفارسية؟
الجواب: هذا الاحتمال قائم، ومما يدعمه هو أن إيران تعمل الآن على زعزعة الاستقرار في المنطقة وهي تئنّ تحت وطأة الضائقة الاقتصادية، بسبب العقوبات وتوجيه مواردها نحو التسلّح النووي، فكيف بها إذا انفرجت هذه الضائقة؟ ويدعمه أيضاً ما يوحى به السياق التاريخي الممتدّ منذ الفتح العربي لفارس- الذى أزال المملكة الساسانية - وحتى الآن، ولم يفارق الفرسَ شعورُهم بالمرارة تجاه العرب الفاتحين، فلا غرابة أن يؤيّدوا الثورة العباسية، وأن يكون قائدها العسكري هو أبو مسلم الخراساني؛ كذلك لم يفارقهم شعور التفوّق على العرب، وظهر ذلك في أقوال شعرائهم وأدبائهم مثل بشار بن برد في بعض قصائده المشهورة، والفردوسي في (الشاهنامه)، كما اتخذ طابعاً حركياً في ظاهرة الشعوبية منذ القرن الثالث الهجري (الفتوحات العربية في روايات المغلوبين - حسام عيتاني)، وفي تغلّب البويهيين على سلطة الخلافة العباسية في القرن الرابع الهجري. وفي ذلك يقول نبيل الحيدري في مقدمة كتابه (التشيّع العربي والتشيّع الفارسي): (وأسّست الدولة (البويهيّة) الكثير من الطقوس الفارسية، كأنها تستلهم من الإمبراطورية الكسروية وطقوسها، وأدخلتها في الدين والعقيدة الشيعية)، ثم يقول في صفحة 114: (وصل الغرور والجبروت بعضد الدولة أن يلقّب نفسه (شاهنشاه) استعادة لمجد الإمبراطورية الفارسية..). وعن الدولة الصفوية يقول في صفحة 163: (كان الشاه اسماعيل (الصفوي) يريد مواجهة الدولة العثمانية... وكان يتمنى أن يغزو مكة والمدينة وقام بمراسلات كثيرة مع البرتغال يدعوهم لغزو الجزيرة العربية، حيث إنه سوف يغزوهم من الشرق - كأنه يطمع باسترداد العرش الكسروي بالانتقام من السنّة المسلمين). وكلا الدولتين البويهية والصفوية اعتنقتا المذهب الجعفري الاثني عشري. وهذا المذهب هو الذى جعله آية الله الخميني المادّة الأولى في الدستور الإيراني لا يجوز تغييره إلى الأبد؛ وحكومة الثورة جاهرت بأن من أهدافها تصدير الثورة الإسلامية، ولم تدخر جهداً ولا وقتاً في متابعة هذا الهدف، فأسّست حزب الله في إيران، ودرّبت وسلّحت الحوثيين في اليمن، وحرّكت بعض عملائها في البحرين، وبدأت في إنشاء مراكز دعوة للتشيّع في بعض الدول العربية. وأخيراً مشاركة الميليشيّات الإيرانية في الصراعات الدائرة في سوريا والعراق، وما رافق ذلك من تصريحات نقلت عن مسؤولين إيرانيين مثل المستشار علي يونسي الذى هلّل بأن بغداد أبحت عاصمة الإمبراطورية الإيرانية، أو قائد الحرس الثوري محمد جعفري الذى افتخر بأن حزب الله إحدى معجزات الثورة الإيرانية، أو المستشار صادق الحسيني الذى باهى بوجود إيران في أربع عواصم عربية، بحيث أصبحت إيران ترسم خارطة المنطقة. والحق يقال: إن شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي كان السابق في سياسة التوسع فهو قام باحتلال الجزر الثلاث التابعة للإمارات، وتابع الادعاء بتبعيّة البحرين لإيران. فإن تمسّكت إيران بإستراتيجية بناء إمبراطورية تهيمن على دول المشرق العربي، فلا بدّ لهذه الدول أن تقابل ذلك بإجراءات فعّالة مثل:
- بناء القوة الذاتية عسكرياً واقتصادياً
- التعاون والتضامن مع دول الجوار -مثل مصر وتركيا - في إطار سياسة موحّدة تتصدى لمحاولات الهيمنة.
- دعم ثورة الشعب السوري، والحيلولة دون بقاء النظام الحاكم حليف إيران وحزب الله.
- توثيق العلاقات الثقافية والتجارية مع جميع مكوّنات الشعب العراقي - ولاسيّما البريئة من التطرف الطائفي - وهي كثيرة ولكنها ضعيفة لضعف المساندة.
- عدم الوقوف موقف العداء من إيران، وتشجيع أي بادرة للعلاقات الودّية.
- سحب البساط الطائفي من تحت أقدام إيران في أي خلاف معها، من خلال تقوية روابط المواطنة والتقارب المذهبي بين السنة والشيعة في المجتمعات العربية، بحيث لا تجد إيران أي ثغرة يمكنها استغلالها لإثارة عاطفة بعض المواطنين ولتبرير أفعالها، علماً أنه فيما يتعلق بالشيعة العرب فإن التشيّع العربي (كما جاء في كتاب الحيدري المشار إليه) ليست مشبّعة بالطقوس ومظاهر الغلوّ الفاحش مثل التشيّع الفارسي.
السؤال الثانى: أم ستصبح دولة إيران أكثر واقعية وسِلْميّة وإدراكاً لضرورة التفاتها إلى تنمية البلاد اقتصادياً وتقنياً واجتماعياً وإرخاء الحبل الذى خنقت به شعبها طوال مدة تربو على ستّة وثلاثين عاماً- بعد الاتفاق وانفراج الضائقة الاقتصادية وتحسّن العلاقات مع الغرب، والتهافت المنتظر من الشركات الغربية للاستثمار في إيران. الجواب: إن هذا الوضع لن يجعل إيران ضعيفة، بل ستصبح دولة نامية وقوية ذاتياً، وذات مكانة عالية ودور إيجابي على المستوى العالمي ومستوى دول الجوار، بما يرضي طموحها وطموح شعبها المتعلم والمتطلع إلى الحياة الحرة الراقية؛ كل ذلك بدون هيمنة واستعلاء امبراطوري تجاه دول تجتمع معها في الجوار والدين والثقافة. بل سيكون التعايش مع دول المنطقة مثمراً في بيئة مستقرة، وستجد إيران في دول المشرق العربي وأخواتها على الجهة الغربية من البحر الأحمر سوقاً قريبة وكبيرة لمنتجاتها الزراعية والصناعية، وسيكون لذلك أثر حميد على القضية الفلسطينية - إذ سيزول التوتر والاستفزاز الذى يعقّد القضية، وعلى النموّ الاقتصادي والاستقرار الأمني في المنطقة، لأن مبررات التطرف والإرهاب قد ضعفت أو زالت. وستنشأ في بيئة التعايش الإيجابي رغبة قوية عند الدول والشعوب في التقارب بين المذاهب الإسلامية، مما يغلق المجال أمام التعصب والتطرف الطائفي.