د. عبدالحق عزوزي
من المعلوم كما يكتب العلامة الكتاني أنّ مسألة الثبات والتغيّر مشكلة فلسفية قديمة. فقد كان فلاسفة اليونان يقسّمون ظواهر الكون والقوانين المحرّكة له إلى جواهر وأعراض. فالجواهر ثابتة والأعراض متغيّرة. والمادّة أو الطبيعة المتغيّرة ليست سوى
أعراضا للجواهر الثابتة. وفي هذا الصدد قال أرسطو (ت. 322 ق.م) بقانون الهوية. وأنّ الهوية ثابتة لا تتغيّر، لأنّه بدون قولنا بثباتها فإنّه يستحيل العلم بأيّ شيء. لأنّ العلم لا يتعلّق إلا بما هو ثابت. ثمّ جاءت الثورة الفلسفية والعلمية في تاريخ أوروبا الحديث فقالت بمبدأ مخالف، هو مبدأ التطوّر الذي يتحكّم في ظواهر الكون. وأنّه بفضل هذا المبدأ وصل الإنسان إلى ما هو عليه اليوم من تقدّم. بل أصبح التطوّر يفسّر كلّ ظواهر الحياة البيولوجية بما فيها حياة الإنسان. فالتطوّر أحد مبادئ الثقافة الغربية التي تتعارض مع ثقافتنا الوطنية، التي تؤمن بثبات الجواهر والقيم، ولعلّ ذلك أن يكون سبباً في الجمود الذي عرفه الفكر الإسلاميّ والوطنيّ، حينما اكتفى بالتقليد، واجترار التراث، بل وفي إغلاق باب الاجتهاد، والتنكّر لمتغيّرات المجتمع. فجمد الفقه الإسلاميّ منذ القرن الرابع الهجريّ. وبرغم وجود دعوات للاجتهاد وتطوير التشريع فإنّ هذه الدعوات لم تجد الأذن الصاغية. لكن عندما انخرطنا في التاريخ المعاصر، وهو تاريخ متغيّر باستمرار، ومتطوّر باستمرار، لم يكن أمام ثقافتنا بدٌّ من الانفتاح على مفاهيم التطوّر، الذي أصبح يَطال كلّ شيء في حياتنا، ولم يكن بدٌّ من الإيمان بأنّ التطوّر سنّة الحياة. لكنّ البعض منّا ما يزال يدير ظهره لهذه الحقيقة، ويصرّ على أنّ اتّباع السلف، واسترجاع تاريخهم ومفاهيمهم في الدين هو السبيل الوحيد لفهم الإسلام وتطبيقه. وهنا تُثار أيضاً مسألة الهوية الوطنية وثباتها.
أجل، إذا نظرنا في الثوابت التي تقوم عليها هذه الهوية، فسنجد أنّ بعضها قد يتغيّر في تصوّرات بعض السياسيين والمفكّرين. ولذلك نتساءل: هل نحن متفقون على هذه الثوابت ؟ وإذا كانت هذه الثوابت موجودة، فهل نحن متفقون على تحديدها وتأويلها ؟ أوَ ليس الاختلاف السياسي راجعا في بعض مناحيه إلى الاختلاف في فهم هذه الثوابت ؟ وإذا كانت كذلك فأين يكمن الثبات ؟ وبالتالي فإنّنا غير متفقين في تحديد مضمون الثوابت، فما بالكم في تحديد المتغيّرات. بل إنّ منّا من يجعل من بعض الثوابت متغيّرات، ومن بعض المتغيّرات ثوابت. وبذلك يتّسع الاختلاف داخل ثنائية الثوابت والمتغيّرات إلى حدّ بعيد.
ثم إنّ الخصوصية لا تتعارض مع الكونية، إلا في تصوّر ضيّق للخصوصية، أو في تصوّر مُبالغ فيه، في تقدير الكونية. فالخصوصية تتعلّق بالجانب الوِجدانيّ والتقاليد الاجتماعية التي تمثّل النموذج الوطنيّ المتجلّي في المشاعر والأذواق والنزوع الروحيّ، الذي لكلّ شعب من الشعوب، كما تُجسّده العقائد والفنون والآداب، ويتماهى مع اللغة الوطنية. أمّا الكونية فهي القيم العقلانية والتنظيمات المادية والقوانين الدولية المتعلّقة بالعلاقات الاقتصادية وتبادل المصالح، وما تأخذ به الدول من مناهج في التنمية البشرية والإعلام والتواصل. ومن ثَمَّ فالخصوصية لا تتعارض مع الكونية ومن هنا يمكن أن تزال كل مواطن النزاع المتواجدة هنا وهناك، وإنّما تعد تميُّزاً وطنياً داخل الكونية، وممارسة نوعية لها، تجسيدا للاختلاف المشروع بين الشعوب والأمم والأديان والثقافات.
أما الهوية - وهي بضم حرف الهاء المذكِّر بأصل الكلمة الكامن في ضمير الغائب (هو) الذي به يكون الشيء هو هو - فتعني الشخصية وما يشكل كيانها في وعاء الضمير من قيم ومقومات بها ينضبط وجود الفرد والجماعة، ويستقر في تثبت ورسوخ. فهي تتكون من الوطن في بعده الطبيعي والبشري، وما يحكمه من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لا تلبث أن تفرز ملامح تلك الشخصية وما يسمها من ذهنية متميزة يتدخل الدين لبلورتها، بما يحقق الذات ويجدد مجال الرؤية ويكيف آفاق التفكير والسلوك.
وأما الوحدة الوطنية فتعني وحدة الانتماء إلى الوطن، بدءاً من الارتباط بالأرض والدين، وفق ما كان يفهم في القديم - وما زال - إلى الوعي بالمفهوم القانوني للمواطنة، وما تقترن به من إدراك للحقوق والواجبات، ومشاركة في تسيير شؤون الوطن والشعور بامتلاك شيء من سيادته.
وعلى الرغم مما قد تثيره العولمة وما يصحبها من تداخل الثقافات، فإن الهوية تبقى عنصراً فاعلاً ومؤثراً في تلكم السيادة والوحدة التي تقترن بها.
من هنا يبرز المقوم الديني الذي أجمعت عليه مختلف الدول العربية كالمغرب مثلا، إذ به حققوا وجودهم وكيانهم، وحددوا ملامح ذاتهم وشخصيتهم. وهم لهذا لم يكتفوا باتخاذه عقيدة وتشريعاً يلتزمون به في عباداتهم ومعاملاتهم، ولكنهم توسلوا به في تحديد مفاهيمهم وضبط تصوراتهم، باعتباره قاعدة سلوكية ومقياساً به يميزون.
وزادوا فاعتبروا اللغة العربية، ليست فقط أداة تواصل إلى جانب اللهجات المحلية، ولكنها تتجاوز كونها كذلك لتصبح رمز الذات وما تلتزم به من قيم ومقومات، وإحساساً باطنيا بهذه الذات، طالما أنها لغة القرآن الكريم وتراث الإسلام، وأنها وعاء ما تبدعه من مشاعر ومعارف وخبرات، يكاد التراث الثقافي والحضاري في تكامله أن يكون جامعها الأمين، والمعبر الصادق عن أنماطها المختلفة.
وقد تسنى للمغرب إثر فتحه ابتداء من سنة 61هج على يد عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير ابتداء من عام 79هج أن يتأثر بهذا الواقع بجميع إيجابياته وسلبياته؛ إذ أُتيح له أول الأمر أن يحتك بالخوارج الذين كانوا يلجأون إليه فارين من قبضة الأمويين والعباسيين، ولا سيما منهم الإباضية والصفرية الذين كانت مبادئهم الداعية إلى رفض العنصرية والقبلية تلقى صدى طيبا في نفوس المغاربة، مما أظهر من بينهم زعماء كميسرة المضغري الذي قاد ثورة طنجة سنة اثنتين وعشرين ومائة، وكان على رأي الصفرية، وهو المذهب الذي سيعتمده بنو مدرار الذين أسسوا إمارة خارجية في سجلماسة، قبل أن يتحولوا لمذهب السنة أوائل القرن الرابع في عهد محمد ابن الفتح بن ميمون الملقب بالشاكر لله. ومن أعلام هذه الإمارة أبو الخطاب عبد الله علي بن السمح المعافري الذي خرج سنة 141 متنقلاً بين أقطار الشمال الإفريقي. وهو الذي ساند عبد الرحمن بن رستم في إقامة دولة خارجية بتاهرت التي أصبحت مركز الإباضية.
ومثلما لجأ الخوارج إلى المغرب، فكذلك لجأت وفود الشيعة الفارين من اضطهاد الدولة في المشرق، مما حوّل أنظار المغاربة نحو آل البيت، في حب لهم جلاه الترحيب الذي لقيه المولى إدريس، حين وفد فاراً من وقعة فخ سنة تسع وستين ومائة في عهد الهادي العباسي، أو مبعوثا قبل ذلك بنحو عشر سنوات من لدن أخيه محمد بن عبد الله الذي كانت له مواجهات مع المنصور العباسي. ثم كان أن تنازل إسحاق بن عبد الحميد عن إمارته في وليلي للمولى إدريس بعد أن بايعه ودعا القبائل أن تبايعه؛ مع الإشارة إلى ما يذكر من أن ابن عبد الحميد كان على رأي المعتزلة الذين استمر لهم بعض الوجود في أقطار الشمال الإفريقي، على نحو ما كانت عليه دولة الأغالبة، وكذا دولة الموحدين التي كان زعيمها المهدي بن تومرت يميل إلى الدفاع عن العقيدة بالحجج العقلية.
وفي سياق هذه السنية كان الظهور أول الأمر للمذهب الحنفي باعتباره سابقاً على غيره، قبل أن يتم التحول إلى المذهب المالكي الذي أخذ ينتشر في العهد الإدريسي.
وهكذا أتيح للمذهب المالكي أن يستقر ويستمر كذلك، مرتبطاً بالعقيدة الأشعرية وسلوك التصوف السني. معزَّزاً بأسباب أخرى كان من بينها - وربما من أهمها - موافقة طبيعة المذهب القائمة على النص والنقل والأثر والرواية، لمزاج المغاربة النافر من الغموض والإبهام والتعقيد والتأويل. وكان المرابطون قد رسخوا دعائمه واتخذوه قاعدة لسياستهم ومنطلقا لحركتهم الإصلاحية، مما جعله - لمرونته - يتجدد باستمرار اعتماداً على مبدئي الذرائع والمصالح المرسلة، وجعل فقهاءه يلتزمون مواقف نضالية، للدفاع عن حوزة الوطن ورد كل عدوان عليه. وقد قَوَّت هذه المواقف مساندة السلطة للمذهب، في محاربة كل اتجاه منحرف قد يشوش على عقيدة المغاربة.