د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن كتبنا في صحيفة الجزيرة الغراء أن النظام العربي محكوم في المدى القريب والمتوسط بأنواع البيوتات العربية الداخلية، ولكن هناك دولاً يمكن لها أن تحمل لواء الوحدة والسير بها قدماً إلى التكامل الاندماجي والاقتصادي وعلى رأسها بعض دول مجلس
التعاون الخليجي كالمملكة العربية السعودية والإمارات والمغرب وغيرها على شاكلة ما وقع في أوروبا بين فرنسا وألمانيا، وكل الدول الأخرى ستركب السفينة وتضع حزام الأمان رويدا رويدا بتأثير النظام العربي الجديد وقيادة الدول المحورية في هذا النظام؛ ولا غرو أن هذا العمل يتطلب رؤى نخب بصيرة في محيط لا يمكن أن يكون متجرداً من لاعبين آخرين، ومساحة إقليمية ودولية لا يمكن أن تكون خالية من حساد ومغرضين سيعملون على عرقلته، وفي بيئة لا يمكن أن تكون إلا صراعية وغير مستقرة.
فالنظام العربي عاش أصعب أيامه وأعقدها لأن بناء هذا البيت العربي لم يكتمل؛ فأي نظام إقليمي أو عالمي يبقى رهينا بالآليات السياسية المتحكمة في كل قطر من أقطاره، ونوعية النظام السياسي المحدد لسياسته الخارجية؛ والتجربة الأوربية أعظم تجربة يمكن أن نستحضرها في هاته الفترة الحاسمة من تاريخنا العربي؛ لأنها تحيلنا على تجربة طويلة في الزمن ولكن لها من السمات ما يجعلها تشبه بعضاً من محددات النظام العربي الذي هو اليوم في إطار التكوين أو لنقل النشأة الجديدة؛ لا يسمح المقام هنا بسرد تاريخي لتكون الوحدة الأوروبية، ولكن فقط يمكن أن نشير إلى أن انضمام دول أوروبا الشرقية إلى دول أوروبا التقليدية ما كان ممكناً إلا لأن الآليات السياسية في تلك الدول تغيرت وأصبحت أكثر قابلية لتقبل قواعد الوحدة الإقليمية والخضوع لمبدأ ضرورة تجاوز الفكرة القطرية أو القومية إلى ما هو أعلى منها وأكثر ملائمة لتطورات العالم المعاصر.
هذا التجاوز يكون من الدولة الأمة إلى ما هو أعلى منها وأوسع وأعم، وهي الفكرة الوحدوية الإقليمية، ولا يتم ذلك إلا عندما تكون العوامل المسيرة لتلك الوحدة مطابقة للعوامل المسيرة لكل قطر من أقطارها؛ فلا يمكن تصور نجاح انضمام دول أوروبا الشرقية إلى دول أوروبا التقليدية لو لم يفتح المجال السياسي العام على المنافسة الاقتصادية الليبرالية الحرة، ولا ترسيخ مبادئ المحاسبة والمساءلة داخل الدولة، ولا إحكام عوامل الحكامة الجيدة ونظرة جديدة إلى التقسيم الترابي واللامركزية والجهوية الموسعة؛ وتستوقفني هنا القوة التعاونية بين الجهات الأوربية المختلفة (أي بين جهات كل دولة والجهات في الدول الأخرى) فأنشئت وحدات صناعية عابرة للقارات وشركات يضرب لها ألف حساب كالإيرباص مثلاً وهي حصيلة تعاون جهات أوروبية عدة مجتمعة.
ثم ألا يحق لنا أن نتوقف أمام قوة الثنائي الفرنسي - الألماني في عملية البناء والتوسع بعد أن عاش هذا الثنائي ويلات حروب ثلاث في سنة 1870 و1914 و1939 حتى نتبين أن تجنب الرجوع إلى العداء لا يتم فقط بسبب الجوار الصالح وإنما بفعل الإرادة الحسنة المتجردة من الذات والبانية للمؤسسات والأفراد؛ ومازلت أتذكر وأنا طالب في الجامعات الفرنسية كيف أن برامج تعاونية على أعلى مستوى بين ألمانيا وفرنسا كانت تسمح بتبادل مستمر للطلبة في البلدين وفي جميع التخصصات وتفتح لهم دروساً خاصة في المواطنة الأوربية رغم أن بين اللغة الألمانية واللغة الفرنسية فرقاً كبيراً ولا يمكن للطالب الألماني أن يتفاهم مع نظيره الفرنسي إلا انطلاقاً من اللغة الإنجليزية أو بوجود مترجم؛ ونتذكر جميعاً أن الذي أنقذ الاقتصاد اليوناني من الانهيار هو تدخل قطبي الاتحاد ألمانيا وفرنسا.
وأظن أن عملية «عاصفة الحزم» في اليمن التي تقودها المملكة العربية السعودية بمشاركة العديد من الدول بما في ذلك دولة الإمارات العربية المتحدة والمغرب، من أجل دعم الشرعية في اليمن، هي من أولى تجليات هاته القوة الممكنة وإمكانية مأسستها... فالعملية ليست لإنقاذ اليمن، بل لإنقاذ المنطقة بأكملها، بعد أن أضحت إيران تجاهر علناً أنها تراقب وتوجه أربع عواصم حساسة وهي دمشق وبغداد وبيروت وعدن... بمعنى أن القشرة الحامية للدول ستزال بالمرة، وأن المذهبية الصراعية هي التي ستكون القاعدة الموجهة لما تبقى من الدول والمؤسسات... وهذا التوجه الفتاك هو الذي أوجد داعش وخرب الأوطان، وشرد الملايين من الناس كما تداعت على الشعوب جماعات وأفراد ودول كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها وأدخلت دولاً في أنفاق طائفية. فليس هناك أخطر من تفجير التناقضات البنية الاجتماعية في دولة من الدول، وليس هناك أخطر من تمزيق النسيج الاجتماعي للأوطان، وهو ما تعيشه اليوم دول كسوريا والعراق واليمن، يجري تحريكه وتزكيته وتمويله إيرانياً...
وأي مشروع وطني يستحيل أن يتولد من مشاريع طائفية، إطلاقاً وذلك من باب المستحيل!! حتى يمكن أن نقول إن مكفنه ومدفنه يكون بالذات من تلكم المشاريع الطائفية.... والطائفيات لا تبني أمماً ولا أمصاراً ولا تؤسس لدول ولا لجماعات خاضعة لسلطة مركزية واحدة وإنما تهدم المؤسسات وتهمش الخصوم وتنهب الثروات وتنفرد بالسلطة وتحول مجرى الصراعات السياسية إلى حيث تصب في خيار الحرب الأهلية، ولا ننسى أنها تستقوي بالخارج كإيران أو بعتاد وأسلحة منظمات التكفير والإرهاب....
العراق منهمك في تركة نوري المالكي التي جعلت الدولة لحد الساعة مرهونة بالقيود الطائفية والتمددات الإرهابية والتدخل الإيراني.... ولبنان ما زال دولة بدون رئيس أكثر من مائتي يوم، والدولة بدون رئيس لأن تجمع 08 آذار الذي يقوده حزب الله يمتنع عن حضور الجلسات في البرلمان. وليبيا تعيش شبح حرب أهلية أتت وتأتي على ما تبقى من الأخضر واليابس، وتونس بعد أن صفق لها الثقلان على شجاعتها السياسية وبداية تثبيت مؤسساتها الديمقراطية، أتى الإرهاب الغاشم على رئة الاقتصاد التونسي وهي السياحة لتوقيف شرايينه وشرايين التنمية في هذا البلد، ومن خلال ذلك كله زعزعة الأمن وقواعد السياسة في البلد. كما أن الحرب على داعش ومواجهة التنظيمات المسلحة والإرهابية ووصول عدد اللاجئين السوريين إلى أكثر من اثني عشر مليوناً، هي عموماً الحالة الخطيرة والمزرية التي وصلت إليها بعض الأوطان العربية في المشرق كما في المغرب العربي.
القمة العربية التي اجتمعت في شرم الشيخ كان أمامها هاته الملفات، وهي ملفات ملتهبة وصعبة ويستحيل تبني قرارات بالإجماع، كما هو شأن باقي التكتلات الجهوية القوية كالاتحاد الأوروبي... فعندما تثار مشكلات داخلية أو إقليمية أو جهوية، كالمشكل الأوكراني مثلاً، فالقادة يجتمعون في ظرف قياسي ويأخذ القادة قرارات واحدة وملزمة...
ولكن لعمري فإن عملية «عاصفة الحزم» لإجهاض الانقلاب الحوثي على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، ولوضع اليمن على السكة الصحيحة لتجنيبها متاهات الحرب الأهلية، والجهر بأن أمن اليمن وأمن دول مجلس التعاون الخليجي هو كل لا يتجزأ، وتواجد المغرب، وهي دولة مستقرة سياسياً ومؤثرة إسترتيجياً ودبلوماسياً وعسكرياً، إلى جانب أشقائه في دول الخليج رغم البعد الجغرافي، هي إستراتيجياً مسألة تمهد لفكرة لطالما راودت الجميع، وهي إقرار العرب بتشكيل قوة ردع عربية للتدخل السريع... وإذا ما تم ذلك فإن المنظومة العربية ستتقوى بوحدة وقوة ومناعة دول محورية يمكنها أن تقود السفينة، ويمكنها أن تمؤسس لقوة ردعية عسكرية عربية دائمة، ويمكنها أن تعيد الاستقرار والأمن في ليبيا، وتستطيع أن تحقن الدماء في سوريا....