د. عبدالحق عزوزي
توفي منذ أيام عن سن تعدى التسعين العلامة المغربي الأستاذ عبدالهادي التازي، وهو الذي عرف بنبوغه المبكر الذي ظهر به وسط نظرائه من طلبة القرويين وشباب فاس المتنور، وبمواقفه الوطنية الرائدة، وإنجازاته العلمية العديدة.
وكذا المسؤوليات السامية التي تحمل أعباءها بكفاية فائقة وخبرة كبيرة، في مختلف المجالات التعليمية والثقافية والسياسية على مدى أزيد من نصف قرن، ونهض بها في إقبال على الحياة بتفاؤل واستبشار، وبنشاط دائب وروح شباب دائم لا يشيخ.
وبقدر اهتمامه بدراسته في القرويين وتراكماتها المعرفية والعلمية، ساءل عبد الهادي التازي تاريخ بلاده، باحثا عن أجوبة كان في أمس الحاجة إليها. وتجول في مقدمة ابن خلدون وعصره، ورحلات ابن بطوطة وملاحظاته والاستقصاء وتاريخه ومئات المراجع المغربية والأجنبية، فعشق البحث والتنقيب وتولدت لديه «حاسة سادسة» مكنته من التعمق في دراسة التاريخ وأسراره وتشعباته، بحثاً عن أجوبة ستحدد مسار الشاب الذي سيصبح من أكبر مؤرخي المغرب والوطن العربي الحديث.
وبقدر ما تمرس على الدرس والبحث، بقدر ما تمرس على العمل الوطني، فدخل السجن وعرف العذاب والحرمان، فتوهجت أفكاره وترسخت قناعته، فأضاف إلى الفكر المشاركة وإلى التساؤل الفعل.. وبذلك أصبح عبد الهادي التازي شاهداً وحاضراً ومشاركاً.. ومع تراكمات المعرفة والتجربة والتضحية، تكونت شخصيته الجذابة ومواهبه المتعددة وطموحاته العلمية والتزاماته الإنسانية.
وعاش عبد الهادي التازي نشوة الاستقلال حيث ساهم في تحقيق حلم طالما كون كابوساً طارده على مدى عشرات السنين... شارك في الخطوات الأولى لبناء المغرب المستقل الديمقراطي الحداثي حيث اختير بسرعة لمهمات وطنية عديدة.
فقد كان سفيراً في عدة عواصم عربية وإسلامية، كان سفيراً عالماً، فتحت له أبواب أعظم الخزانات وأشهر مراكز البحث، حيث اطلع على الوثائق النادرة والمخطوطات القيمة فلمس عن قرب أغنى بصمات تاريخ الإنسانية.
ولأن الرجل كريم بطبعه فقد تقاسم حصيلة أبحاثه ودراساته حيث ولج عالم الكتابة والتأليف والتوثيق، فكانت كتاباته وتآليفه إشراقات أغنت الفكر الإنساني وعززت جسور التعايش والتآخي.
والمرحوم عبدالهادي التازي أول من نجح في فوج الشهادة العالمية من جامعة القرويين عام 1947؛ وأول من نجح في مباراة التدريس بالجامعة المذكورة عام 1948؛ وأول من نال دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة محمد الخامس) 28 فبراير 1963؛ وأول من ألف ثلاثة مجلدات عن جامع القرويين 1972؛ وأول من ألف حول التاريخ الدبلوماسي للمغرب من أقدم العصور إلى اليوم 15 مجلدا 1986؛ وأول من اكتشف على الصعيد العالمي خللا في ترتيب رحلة ابن بطوطة 2004 التي ترجمت إلى عشرات اللغات؛ وأول من حبس مكتبته الخاصة على خزانة جامعة القرويين عام 2006.
كتب عنه أحد تلامذته بالمدرسة المولوية وقد حل أستاذاً لمادة الفكر الإسلامي بالمدرسة سنة 1978 أنه «كان يحمل شيئا فريدا عبر زاده الأكاديمي، وعبر قوامه الثقافي والفكري، كان يحمل تجربة ثرة في العمل الدبلوماسي، كان قد أتى تواً من العراق حيث شغل منصب سفير هناك مرتين اثنتين تخللتهما سفارته في ليبيا... وكان أن زاوج في دروسه معرفته الأكاديمية مع تجربته الميدانية... وكانت كل الإحالات التي تحملها دروسه من أحمد أمين وسامي النشار فيما يخص الفرق الإسلامية والمذاهب والنحل لا تضاهي تجاربه للتدليل عن «تقية» الشيعة... وكان ذلك يثير لدينا فضولا، أوليس من خصائص التربية الجيدة إثارة الفضول؟ وكان يحدث أن تندر على استنتاجاته حول الاتحاد السوفيتي، وعن بؤسها الروحي، وعن ماديتها ... كان بعضنا يرى في تلك الاستنتاجات ضحالة معرفية وغبن رؤية وتأثير تربية بورجوازية ... كذا... كنا أبناء عصرنا، وكان عبد الهادي التازي يصدر في حكمه عن عمق تاريخي وحدس حضاري. ولذلك حينما نطق التاريخ بحكمه ثلاثون سنة بعد ذلك، كان عبد الهادي التازي على صواب وكنا على خطأ ...
وكان يحلو لنا أن نردد معه تلك المحفوظات التي نظمها المغاربة لتعلم اللغات الأجنبية. أذكر منها ما يخطر على بالي عفو الذاكرة:
كلمة الصباح عندهم «بونجور»
ولفظة الدوام عندهم «توجور»،
الرأس طيط والأنف ني، والعنق «كو» ،
وفي التعبير عن كثير قل «بوكو»
وماذا يعني كل هذا ؟ أفلا يعني أن المغاربة أرادوا أن يعلموا ما لدى الآخر من معارف وأن يتعلموا لذلك لغته وفق أسلوب متواضع حوله: النظم... مثلما يتعلمون ألفية ابن مالك وفقه ابن عاشر نظماً... وقد لا تشاطرهم أسلوبهم ذاك، ولكن أليس في ذلك آية من رغبة المغاربة على الانفتاح ومعرفة الآخر...»
المرحوم عبدالهادي التازي كان رفيقا للكتب والمخطوطات النوادر وكان لا يضعها من يده... فهو العالم الفذ، المكرم الفاضل، وجدت فيه من السجايا والكرم ما لا يوجد في غيره، وكان يتمتع بقوة الذاكرة حتى لنبقى مبهورين أنا وأفراد عائلته عندما يقول لك مثلا اذهب إلى ذلك الرف وخذ الملف الثالث الموجود بعد الملفين الأولين وخذ الظرف الرابع ثم الرسالة الثالثة الموجودة فيه وانظر آخر السطر الفلاني تجد ضالتك، وإذا كنت شخصيا تربيت في أحضان عالم من خريج جامعة القرويين الدكتور إدريس عزوزي، ومطلعا على خصال علماء القرويين الذين تميزوا بعلمهم الوافر وبوسطيتهم التي لا تعلى عليها، إذ كانوا يجتمعون كل سبت بعد العصر في منزل من منازلهم بالتتابع للحديث الممتع، فلا أظن أن عالما مثله يمتلك أسلوبا يمزج الجد بالهزل. فهو يتقن فن الخطابة مما يجعلك تنبهر أمام سحره، وما زلت أتذكر أنني كنت في غرفة نومه (والكتب المبعثرة فيها توحي أنك في مكتبة من مكتباته وليس في غرفة نومه، وأعتز بدخولي إلى بيته وغرفته هاته بالذات، لأنه قال لي لا يدخل أحد هذه الغرفة سوى ابن من أبنائه)، والهاتف لا يتوقف عن الرن وكان بيني وبين مؤتمر دولي كنت أنظمه أيام قلائل، وكنت دائماً مضطراً إلى الرد، فإذا به ينظر إلي مبتهجاً وينشدني بيتا:
وكيف أرجى منك صدق العواطف
وقلبك مقسم على ألف هاتف
وكان كلما أتى المرحوم إلى فاس يشرفني في بيتي كما كنت أدخل غرفته في بيته في الرباط كما يدخلها واحد من أبنائه، ونتحدث الساعات الطوال في العلم والأدب والتاريخ والديبلوماسية، وكان يشارك معي في المنتديات التي أنظمها والكتب التي أؤلفها ويشجعني ويوصيني بالإكثار من قول: (حسبنا الله ونعم الوكيل).
بالإضافة إلى هذا وذاك فإن الرجل كان دبلوماسيا محنكا ومحاورا من الطراز الرفيع يمتلك أسلوباً يمزج الجدّ بالهزل، ويتقن بيداغوجيا الخطاب بما يثير اهتمام سامعيه من مختلف الأعمار والمستويات. أحياناً كان يحدّثك عن شأن تافه وكأنه أمر في غاية الأهمية، وأحياناً أخرى يحدثك عن شيء هام جدا وكأنه من توافه القول والحدثان. المرحوم عبدالهادي التازي كان من المؤسسين وعضوا في العديد من المجمعات العلمية في الوطن العربي، وكان يعمل بانتظام واستمرار دون أن يعير أي اهتمام لما يلوكه محترفو النقد ومتلمسو الهفوات الصغيرة، مؤمناً بشعار واحد هو الإنتاج والإسهام في التراكم المعرفي، وبمزاجية تختلط فيها الخصوصيات الذاتية لرجل يعشق الحياة بالحركة الدائبة والإقدام على المحاولات الجادة لسبر أغوار المجاهيل التي يُكابد من أجل الكشف عنها كلّياً أو جزئياً المشاقّ لتغتني المعرفة.
وهو الذي عرض عليه (كما أسر إلي) مال كثير لتشترى مكتبته الخاصة ومكتبته كلها نوادر، فرفض وحبسها بأكملها على خزانة القرويين.. وهو الأب الحنون والوطني الكبير الذي يحب الخير لغيره ويشجعهم وينصحهم، وكان يقول لي دائما وهو يستحضر معي الأنشطة الثقافية التي نقوم بها: ضع كيلوغرامات من القطن في أذنيك واستمر في عملك ولا تسمع لأحد، وكل ذي نعمة محسود.
ولا ننسى في الختام قصة العشق الحميمة، التي جمعت المرحوم عبدالهادي التازي بابن بطوطة. تلك القصة التي أظهر فيها أن ارتياد الآفاق، هواية عربية قديمة وأن بين الرحلة والمعرفة تضاريس متقاطعة. وأحسب أنه ما كان لصديقنا أن يبلغ كل هذا الولع بابن بطوطة لو لم يكن هو نفسه شغوفاً بالسفر وقام بما يقارب 1377 رحلة جوية سواء في إطار عمله الديبلوماسي كسفير في عدة بلدان أو من خلال رحلاته العلمية الخاصة أو رحلته الأولى إلى أوروبا التي خصها بكتاب مستقل. فكان في عشقه للسفر، كمن يحتمي بمقولة الرحالة أبو الحسن المسعودي تميمة ومذهبا في الحياة التي يقول فيها: «ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمى إليه من الأخبار من إقليمه كمن قسم عمره على قطع الأقطار ووزع بين أيامه تقاذف الأسفار واستخرج كل دقيق من معدنه وإثارة كل نفيس من مكمنه».
وإذا كان لابد للأستاذ عبد الهادي التازي من اختصاص بذاته، فإن ابن بطوطة ورحلته المعنونة بـ «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، اختصاصه الأول والأهم إذ اشتهر بتحقيقه رحلة ابن بطوطة في خمسة مجلدات وتحقيق «المفهم في شرح تلخيص مسلم للقرطبي» بخط ابن بطوطة إضافة إلى نشره ما أسماه بـ «المستدركات على تحقيقي لرحلة ابن بطوطة».
فهو يرى أنه مكلف بأداء الأمانة إزاء ابن بطوطة الذي يعتبره قد ظُلم رغم أن رحلته أول رحلة في تاريخ البشرية جمعاء، مطالباً العالم العربي أن يجعله في قمة رجال الاكتشاف بوصفه مرجعا أساسيا لتاريخ العرب في العصور الوسطى وبوصفه أيضاً الرّحالة الذي استغرقت رحلاته الثلاث 29 عاماً، حتى صار دليلنا إلى ثقافات البلاد الأخرى.
وإلى جانب رحلات ابن بطوطة الشهيرة والغنية بالمغامرات، جاد علينا التازي منذ بضع سنوات بمائة رحلة ورحلة إلى مكة المكرمة في كتاب موسوعي خاص بالرحالين المغاربة، الذين زاروا مكة ومكنونا من معرفة التاريخ العلمي لمكة المكرمة، ومن هؤلاء الرّحالة أبو الحسن بن جبير الأندلسي وابن بطوطة وأبو سالم العباسي والشريف الإدريسي وابن عربي وابن خلدون وغيرهم.
توفي عبدالهادي التازي في الرباط ودفن في فاس التي ولد فيها ودفن بجوار ضريح أبو بكر بن العربي المعارفي (مات سنة 534هـ) نزولا عند وصيته (وأبو بكر بن العربي المعارفي هو الذي قال عنه ابن سعيد: هو الإمام العالم القاضي الشهير فخر المغرب، أبوبكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري، قاضي قضاة كورة إشبيلية، ذكره الحجاري في المسهب، طبق الآفاق بفوائده، وملأ الشام والعراق بأوابده، وهو إمام في الأصول والفروع وغير ذلك) وتجمع العالمين قواسم مشتركة إذ مرا سوياً في حياتهما والتقيا بعلماء القاهرة والإسكندرية وبغداد والتقيا في مؤلفاتهما على علوم التفسير والأصول، فرحمة الله عليه.
لفقدك طلاب العلم تأسفوا
وجادوا بدمع لا يبيد غزير
ولو مزجوا ماء المدامع بالدما
لكان قليلا فيك يا أبا يسر.