د. عبدالحق عزوزي
علم المستقبليات هو من الأهمية بمكان لأنه يرسم خريطة طريق ذهنية وخريطة للمستقبل تعين دوائر القرار وصناعه على تمثل الإشكاليات والمخاطر والمحاسن وكل الاتجاهات الممكنة الممتدة
عبر الزمن المتوسط والبعيد والمحتمل بروزها في المستقبل وعلى تمثل الأحداث غير المتوقعة (Wild Cards) والقوى والفاعلين المحركين للأحداث (Driving Forces). فصاحب القرار الذي يعي أهمية المسؤولية الملقاة على عاتقه لتسيير الشأن العام وبلورة سياسات عمومية حكيمة وقويمة يجد على طاولته خيارات ممكنة ومتاحة، وكل خيار له تداعياته، فتتم عملية المفاضلة بينها؛ إذن فالدراسات الاستشرافية تساعد رجل الدولة على الاختيار المرتبط بالحقائق والتنبؤ العلمي بما سيكون عليه المستقبل مع الاستعداد الأمثل له بتحديد كيفية بلوغه من خلال قرارات وبرامج، ولهذا كتب أحدهم «أن التخطيط هو تحضير وإعداد ذهني للنشاط من أجل العمل، أي بناء خارطة ذهنية؛ وهو كل فعل مقصود يتصور ويثبت في الخيال قبل أن يأخذ مكانه في الحقيقة، أي يجب أن يخلق قبل أن يعمل، وهذه هي قاعدة التفكير قبل العمل».
ولا غرو أن مراكز الأبحاث والدراسات يكون على عاتقها مثل هاته الرياضة الفكرية والذهنية، لأهميتها كمؤسسات بحثية واستشرافية تعج بالباحثين والخبراء، ولكونها تستفيد من وضعها القانوني كمراكز تتمتع بالاستقلالية الفكرية في أغلب الأحيان، بمعنى أن العلمية تكون قاعدتها الأساسية في البحث عن الحقيقة، وتحليل الماضي والحاضر واستخدام القياس والاستقراء لرصد كل الاحتمالات والمشاهد الممكنة للزمن الآتي.
في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا نجد الآلاف من مراكز الأبحاث منها مراكز الضغط السياسية التي تستخدم نتائج أبحاثها للضغط على الإدارات الأميركية في صناعة القرار كـ»مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الذي يضم نخبة من السياسيين والأكاديميين البارزين كهنري كسنجر وهارولد براون.. الخ؛ كما يمكن أن نجد مراكز خلقت للدفاع عن مصالح إسرائيل كـ»معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي للدعاية لإسرائيل في المجالات الأمنية والعسكرية أو ما يسمى بالأذرع الفكرية الإسرائيلية في واشنطن، وهذه المراكز تتوفر على إمكانيات مادية وبشرية ضخمة وتؤثر بشكل جلي على السياسة الخارجية الأميركية. ولا يخفى على كل متتبع لبيب ما قامت به تلكم المراكز مؤخرا لاستدعاء رئيس الوزراء الإسرائيلي لإعطاء خطاب في الكونغرس الأمريكي ردا على الاتفاق المحتمل بشأن المسألة النووية الإيرانية، رغم معارضة البيت الأبيض لتوقيت ومكان الخطاب، ليجد الرئيس أوباما نفسه في صورة المستسلم.
ثم إن مراكز الأبحاث والدراسات في الدول الغربية بصفة عامة لها دور كبير في تجذير ثقافة إنتاج العلم والمعرفة والتوجيه في مجال السياسات العمومية، لهذا عرفها بيتر سينجر مستعملا مجاز سلسلة الدراجة (Bicycle Chair) بأنها تتواجد بين عالم البحث العلمي والعالم السياسي.
وتختلف أهمية دراسات مراكز الأبحاث باختلاف البلدان من بلدان متقدمة صناعيا وعلميا إلى بلدان نامية ثم إلى دول متخلفة. لذا لا يخفى على كل متتبع لبيب أن قوة هذه المراكز ودرجة تأتيرها على صاحب القرار متواجدة أكثر في الدول المتقدمة؛ ولا مناص من القول إن الولايات المتحدة الأمريكية ودولا أخرى كبريطانيا وكندا كانت الدول الأولى التي نمت وتطورت فيها هاته المراكز.. وتساهم بجلاء بخمسة طرق في مجال السياسات العامة كما ينحو إلى ذلك ريتشارد هاس:
- تساهم في بلورة أفكار أصيلة وتقدم خيارات سياسية متعددة.
- أنها تكون خزانا من الخبراء المتمكنين يمكن أن يوضعوا رهن إشارة صاحب القرار.
- تعتبر مكانا للنقاش ومعاينة التوجهات الجديدة والممكنة. وفي بعض الأحيان تكون السرية هي القاعدة المميزة لمثل هاته الاجتماعات، وعلى سبيل المثال يمكن أن نذكر تجربة شاطام هاوس Chatham House)) حيث مأسست لقواعد السرية في تبادل الخبرات والأفكار. والعديد من مراكز الأبحاث تقوم بهذا النوع من الرياضة الفكرية.
- لها دور بيداغوجي للنخب كما للمواطنين. فالبعض منها يكون شغلها الشاغل هي النخبة الحاكمة على حساب الرأي العام، وفئة بحثية أخرى تهتم بالمواطنين على حساب أصحاب القرار، ونستحضر هنا مراكز الأبحاث «الريغانية» نسبة إلى الرئيس الأمريكي ريغان ومراكز الأبحاث التاتشيرية نسبة لرئيسة الوزراء البريطانية تاتشير والتي كانت تعتبر خارج «دائرة العقلانية» وأثرت أيما تأثير على الرأي العام فاتحة الطريق لميلاد مجموعة من القائدين المحافظين.
- كما أن تلك المتخصصة في مجال العلاقات الدولية تكون عونا للمجهودات الرسمية في حل المشكلات الدولية.
وبناء على هاته المعطيات، فمراكز الأبحاث لا تقوم فقط بصياغة دراسات أصلية، ولكنها تساهم في إعداد النخب والتأثير على المجتمع السياسي. فنجد المئات بل الآلاف منها في الولايات المتحدة الأمريكية وفي كندا وبريطانيا مهتمة بقطاع أو بقطاعات معينة في مجال السياسات العمومية وفي بعض الأحيان تهتم بقطاعات واسعة ومتداخلة لصياغة دراسات مستوفية إلى غير ذلك... وهي تستفيد من مساحة الحرية التي تنشط فيها، ولها رؤية مستقبلية في بنيتها تطغى عليها النظرة الإيجابية إلى المستقبل، كما تستفيد من قوة المناهج والأسس النظرية في شراكة استراتيجية مع المجتمع ومع صانع القرار وتستفيد من قوة البحث العلمي ومكانة جامعاتها ومؤسساتها الفكرية والتربوية وتجذير التقاليد الديمقراطية للبحث العلمي الذي يساهم في تنمية المجتمع أيا كان التخصص، كما أنها تستفيد من قوانين الوصول إلى المعلومة (أيا كانت) ولا تعاني الحظر ولا القيود تحت أي سبب من الأسباب التي نسمعها يوميا في بعض الأوطان العربية.. وتعمل تلكم المراكز في إطار من تقاليد العمل الجماعي والحوار والتبادل المعرفي وقبول الخطإ والتقييد وقبول الأسرة الفكرية الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي العلمي المشترك، كما تعتمد في إطار دراساتها المستقبلية على وفرة المعلومات وسعة صدر صاحب القرار وعلى تقنيات تمكن من توسيع مساحة المشاركة في البحث وهو ما تحتاج إليه مراكز الأبحاث في العديد من الأوطان العربية.
فالدراسات الاستشرافية المستقبلية التي تقوم بها مراكز الأبحاث الغربية كآلية للتخطيط تهدف أولا إلى صياغة براديغم وإطار فكري لتحديد طبيعة المشاكل والتحديات التي تواجه البشرية أو التطور الإنساني في المستقبل، وثانيا إلى توجيه قرارات القادة السياسيين ووضع حلول وبدائل مستقبلية ويتم ذلك خلال استعمال العديد من التقنيات المستقبلية لترشيد عملية التخطيط انطلاقا من تحديد المشكلة إلى غاية مرحلة التنفيذ والتقييم كتقنية السيناريوهات وتقنية دلفي، وتقنية التنبؤ وتقنية المحاكاة وتقنية نظرية المباراة وبحوث العمليات ونظم المعلومات.
فكل مجتمع إذن له ديناميته الخاصة في مجال البحث العلمي والدراسات العلمية، والدراسات المستقبلية ليس فقط من خلال تواجد مراكز الأبحاث والدراسات ولكن أيضا من خلال المؤسسات البحثية بصفة عامة، والتي تضم الكليات والجامعات والمؤسسات ومراكز الأبحاث وغير ذلك؛ فلا يمكن فهم هذا الموضوع بمعزل عن البحث العلمي والمؤسسات العلمية خاصة المؤسسات الجامعية والمنتوج الفكري في المجتمع، فبينها تداخل وتشابك.... ويكفي الرجوع إلى المنتوج العلمي لأصحاب وأعضاء مراكز الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية فإنك تجد معظمهم تخرجوا من أعرق الجامعات العالمية ومارسوا داخل المؤسسات الجامعية أو في المحافل الدبلوماسية ويتواجدون في مجتمع معرفي متطور. فحتى جوائز نوبل التي تمنح، فغالبا ما تعطى لباحثين أكفاء يعيشون في حقل فكري وعلمي متطورين، وينضوون طبعا في مراكز بحثية معترف بها تسجل العديد من براءات الاختراع وتضم العديد من الأبحاث المعتمدة؛ وإذا حصل أحد العرب على جائزة علمية فغالبا ما يكون يزاول في مجتمع غربي.