اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إن صلاح أمور الأمم، والارتقاء بأحوالها، وقياس مستوى نجاحاتها، يقاس بعلو همم قادتها، وتجارب الأمم وتعاقب الهمم عبر الأجيال هو الذي صنع أحداث التاريخ وما حفلت به من مواقف، وكان لعلو الهمم فيها أكبر دور وأعظم نصيب لتعطير ذكر أصحابها ورفع شأنهم، في حين أدى سقوط الهمم بآخرين إلى حضيض المكانة ووطأة المهانة وسوء الأحدوثة، وطلب المعالي هو الغاية التي ينصب عليها همّ علاة الهمم، ويحتدم بينهم السباق والتنافس في سبيل ذلك، وكلما علت الهمم زادت الهموم، واستجابت لذلك العقول، وحصل التفاعل بين الطموح والعزم والإرادة وغيرها من الصفات والمحركات والعوامل المؤثرة.
وعظيم الهمة يجد متعته في ركوب المخاطر، ويستعذب ما يصادفه من المصاعب من أجل الوصول إلى نهاية الاجتهاد، وبلوغ أعلى ما يراد، والمكارم عادة ما تكون محاطة بالمكاره، والعبور إليها يكون على جسر من المتاعب، وقد قيل: ذو الهمة إن حُطَّ فنفسه تأبى إلا علواً، كالشعلة في النار يصوبها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعاً، وأسمى المطالب وأشرف المكاسب هو ما كان لإعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله وما يخدم هذا الهدف من حماية الأوطان والدفاع عن كرامة الإنسان.
والشدائد تدفع إلى علو الهمة وقوة العزيمة، حيث يساعد الابتلاء على تمييز أصحاب الهمم العالية والنفوس الأبية، وتهيئة البيئة المناسبة لصقل العزائم وشحذ الهمم، كما أنها تضع أهل الهمم الساقطة والعزائم الفاترة على المحك وتحت التجربة والاختبار لسبر أغوارهم ووزن أدوارهم، وهذا الابتلاء الناجم عن التعرض للشدائد يحرك غريزة الأنفة، ويستنهض روح المقاومة، ويستثير الأعصاب، فتكون القوى كلها جاهزة لتقبُّل الصدمة ومواجهة الشدائد، وبالمقابل فإن الرخاء يرخي الأعصاب، ويسلبها القدرة على المقاومة والوعي بما حولها، والابتلاء بالنعم أحياناً أشد تأثيراً وأبلغ أثراً من الابتلاء بالمحن.
والأمة عندما تعصف بها الأحداث، تتفاعل فيها الهمم نتيجة لتفاعل المواقف وتأثرها بمعطيات هذه الأحداث وتداعياتها، ومن ثم تترك أثرها نهوضاً ورفعة على همم الناس ومعنوياتهم، ذلك أن للهم خمولاً، وللعزائم فترة، ولا تنشط الأولى من خمولها، وتستيقظ الثانية من رقدتها، وتهب من فترتها، إلا إذا استفزتها الأحداث، واستثارتها المواقف عندئذ ترتفع همم البعض، وترتفع بهم إلى مراتب العزة والكرامة، بينما ينحط آخرون إلى وهدة السقوط ودرك الهوان، وقد قال الشاعر:
أرى الناس صنفي رفعة ودناءة
طغامهم صنف وأعيانهم صنف
وقال آخر:
وما يسبح الإنسان في لج غمرة
من العز إلا بعد خوض الشدائد
وإذا ما نظرنا من منظور تفاعل الأمم مع الأحداث إلى واقع الأمة العربية، وما يتربص بها من أخطار، وما هي ردود أفعالها تجاه هذه الأخطار، اتضح لنا الكثير من المشاهد المؤلمة والأوضاع المحزنة، فها هو النظام الإيراني يتحكم في مصير عدد من الدول العربية، ويتفاوض مع القوى الكبرى على مستقبل شعوب المنطقة، وكأنه وصياً على العرب، ومسئولاً عن المذهب الشيعي وإليه تعود مرجعيته، متخذاً من ذلك وسيلة للتوسع والهيمنة وامتداد النفوذ تحت غطاء من محاربة الطائفية وهو أول الداعين إليها والمروِّجين لها لتحقيق أهدافه الأيدولوجية، والجيو-استراتيجية دون أن يجد من يلجم طغيانه ويقف في وجه عدوانه.
وقد استبد اليأس والقنوط بأبناء الأمة، وهم ينظرون إلى واقع أمتهم المؤلم، وجراحها النازفة بسبب المد الفارسي ونظام الملالي الشاذ الذي لم يترك فرصة إلا اقتنصها لامتهان كرامة الأمة وإذلالها، ورغم ما تمتلكه هذه الأمة من مقومات القوة وما لها من رصيد تاريخي في ميادين العزة والمجد إلا أن ابتعادها عن دينها أضعفها، ودنو همتها أقعدها، وضعف عزيمتها أوهنها، وانحصرت قدرتها في ظل ما تعانيه من ضياع، وما ينتابها من أوجاع في الهروب من واقعها المذل، واجترار ذكرياتها المحبطة، والاستكانة أمام معاناتها المثبطة، بسبب تفشي روح الانهزامية والسلبية، وتخاذل بعض قياداتها السياسية والنخبوية وعجزها عن القيام بدورها وما هو مطلوب منها تجاه قضايا الأمة وما تقاسيه من آلام وتتطلع إليه من آمال، وقد قال الشاعر:
ما طال عهد اليأس في قلب إمرئ
إلا استبان على الجبين خطوط
وفي الوقت الذي لا صوت فيه يعلو على صوت الملالي في طهران، ولا محادثات تحظى بأهمية مثل أهمية محادثات ملفهم النووي في لوزان، انطلقت عاصفة الحزم، وعلا صوت قصفها، وتحولت الأنظار إلى مشاهدة غبار عصفها، وانطلق معها الأمل، وحماس الشعوب المغبونة زنده اشتعل، ولسان المقال بالنسبة للجميع هو أن علو همة سلمان أزاحت عن الأمة كابوس الهوان، وقد قيل: رب همة أحيت أمة، ولكل عصر رجاله، وصفحة المجد لكل أمة يُسطَّر فيها أسماء قادة لهم بصمات في تاريخ أمتهم، لقاء ما اتخذوه من قرارات حاسمة، وما سجل لهم التاريخ من مواقف مصيرية، يتناقلها الركبان وتبقى حديثاً في فم الزمان، وهذا النوع من القادة يشار إلى أحدهم بأنه يمثل أمة، والروض يدل على فضل الغيث حتى وإن ولى أوان المطر، ولله در القائل:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت
لدى المجد حتى عُدَّ ألف بواحد
والحياة مواقف، وبعض هذه المواقف يعتبر امتحاناً صعباً، واختباراً قاسياً لتمحيص معادن الرجال، وبروز عظماء القادة الذين تتوفر فيهم دلائل القيادة ومخايل السيادة، والملك سلمان هو أحد هؤلاء القادة لما يتصف من صفات قيادية ويتمتع به من علو الهمة، وهي همة تنم عن أعلى مراتب المروءة، تلك المروءة التي لا يقدر على حملها والصبر عليها إلا قلة قليلة من الزعماء، حيث أن أشد الأشياء تهجيناً لهذه المروءة هو صغر الهمة بالنسبة للزعماء والقادة، وقرار عاصفة الحزم التي تم صدور القرار بإيقافها بعد أن حققت أهدافها هو أبلغ شاهد على علو الهمة وقبول التحدي وذلك لتعدد أطراف الموقف، وكثرة معطياته، وصعوبة السيطرة على تداعياته، وتداخل خيوط الاستقطاب فيه وتقاطع المصالح، ناهيك عن الأهداف الاستراتيجية لهذا القرار، وما يترتب عليها من نتائج مصيرية لا تحتمل أية نسبة من الفشل ولا مكان فيها لأنصاف الحلول، وكما قال الشاعر:
دع التسويف وامض إلى المعالي
بعزم من ذباب السيف امض
وخذ في الجد وارفض من أباه
من الإخوان والأهلين رفضا
وتأسيساً على ذلك فإن قرار عاصفة الحزم لم يُتَّخذ إلا عندما استبدت العصابة الحوثية، وأهرقت الدماء وتحكمت بالرقاب، وظلمت الناس، وفجرت البيوت، وأكلت الحقوق، واستخفت بالحُرُم، وأمعنت في الاعتقال والمطاردة، واستولت على مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسة العسكرية، وامتد عدوانها من صنعاء إلى عدن، مستقوية بالأجنبي ومحاولة فرض طاعتها على الشعب اليمني والعبث بأمن حدود المملكة، منطبقاً عليها قوله تعالى {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) سورة الكهف. عندئذ طلب الرئيس الشرعي من خادم الحرمين الشريفين وقادة دول مجلس التعاون وجامعة الدول العربية التدخل العسكري لإنقاذ الشرعية ونجدة الشعب اليمني والتصدي للباغي ونصرة المبغي عليه وجاء الرد سريعاً وحازماً من الملك سلمان وانطلقت عاصفة الحزم من عقالها، وقد قال الشاعر:
وخير العلا في مذهبي دفع ظالم
وإنصاف مظلوم وإنهاض جاثم
وذود عن الأوطان في كل موقف
تخاف به الأوطان حمل المغارم
وهذا القرار الحاسم والعزم الصارم من القائد الحازم، ما كان له أن يكون لولا علو الهمة التي تجعل من يتحلى بها، يعانق النجوم، ويتحدى الخصوم، ويجد لذته في التغلب على الهموم، كيف لا، وهذا القرار استجابة لأمر ديني وحق دنيوي، وفيه نجدة لمضيوم، ونصرة لمظلوم، وحماية للحقوق، ومَنْ دافع عن دينه استقر له الأمر في عرينه، ومن ذَبْ عن جاره حصّن داره وصان ذماره، وقال بن حزم حول هذا المعنى: لا تبذل نفسك إلا فيما هو أغلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل، وفي إحقاق الحق وحماية المحارم، ورفع الهوان، ونصرة المظلوم، والهمم العالية تأخذ صاحبها في دروب الفضائل وتصعد به إلى المعالي، فلا يُرى إلا واقفا في الأمام، لا تخيفه المواقف المخيفة، ولا يرضى بالدون، ولا تجد في دائرة اهتمامه مكاناً لصغائر الأمور، ومحتقراتها، وقد قال الشاعر:
همم كأن الشمس تخطب وُدّها
والبدر يرسم في سناها أحرفا
وقد استقبلت الأمة العربية قرار بدء عاصفة الحزم ثم قرار إيقافها بابتهاج غامر بدد همها واستحث عزمها، واستنهض هممها، وشعرت بنشوة انتصار طال عليها انتظارها، حيث رأت فيه بداية موفقة لإزاحة كابوس الهوان، واندحار شبح الذل والخذلان، بل إن عاصفة الحزم أعادت إلى الأمة شيئاً من اعتبارها، ورسمت أمامها شكل خيارها وطريق انتصارها، وواقع حالها ولسان مقالها هو كما قال الشاعر:
فأطلق لروحك إشراقها
ترى الفجر يرمقنا من بعيد