اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
والمنغصات الداخلية منها ما يقع ضمن مسئولية الدولة، ومنها ما يتحمل مسئوليته المواطن، وهاتان المسئوليتان تحتمان على القائد والمقود العمل سوياً على ما يكفل تماسك الجبهة الداخلية، ويضمن صلابة اللُّحمة الوطنية على النحو الذي يؤدي الى التفاف الجميع حول القيادة، واتباع كل ما من شأنه إحلال التلاحم والائتلاف، محل التخاصم والاختلاف لمواجهة التهديدات الماثلة والصمود أمام التحديات الحاصلة، وقد أزف الوقت وآن الأوان للمواطن مهما كان موقعه وطبيعة عمله أن يدرك خطورة المرحلة، وأن يخلع عباءة الكسل والاتكالية، مقيداً النعمة بشكرها، ومحافظاً عليها بمداومة ذكرها، حتى لا يكون في نعمة الأمن التي ينعم بها الجميع، ورغد العيش الذي يعيشه الكثير ما يوهي العزم ويضعف الحزم، ويجنح بأهله الى حياة الترف والدعة، والانهماك المؤدي الى الهلاك.
وترتبط وطنية المواطن بمُثُل عليا وقيم مُثلى تلعب دوراً أساسياً في تكوينها والتأثير عليها وتوجيه مسارها، ومن هذه القيم المعنويات ووسائل التحكم في تحديد مستواها من حيث الارتفاع والانخفاض، وكلما ارتفعت المعنويات ارتفع معها الشعور الوطني بصورة طردية وازدهار المعنويات ونمو عوامل ارتفاعها، وتكاثر وسائل تكوينها، لا يتحقق إلا اذا كانت البيئة صحية والجهة القائمة عليها رشيدة، عندئذ يحس المواطن بوجوده والاعتراف بفاعليته في المجتمع، وهذا لن يحصل إلا بفضل ما يُؤمّن له من حقوق ويتوفر له من استحقاقات ويُقدّم له من خدمات وما يطلب منه من واجبات ويناط به من مسئوليات.
والمواطن دائماً ما يفكر في أمنه الوظيفي والسكن المناسب والمستوى اللائق من المعيشة، ناهيك عن ما يتطلع اليه من العدل الاجتماعي والحياة الكريمة، والدولة التي تقل حقوق مواطنيها في هذه المجالات عادة ما يترعرع فيها الفساد وتكثر فيها البطالة، ويتدنى فيها مستوى دخل الفرد، وتغلب عليها ظاهرة الطبقية، وهذه الظواهر تكون نسبية ولا تخلو منها أية دولة، ولكن ذلك بنسب متفاوتة، واستغلال هذا الوضع والعزف على وتره من أصحاب الأهواء ودعاة الاغواء يتحكم فيه عوامل داخلية ذات طابع اجتماعي واقتصادي وسياسي، بالإضافة الى ما قد يتداعى لهذا الامر من الخارج.
وليس من المنكور وجود هذه الظواهر في المملكة، ورغم انها من المنغصات إلا انها لا تعتبر عاملاً امنياً مزعجاً، ولا امراً اجتماعياً مقلقاً نظراً لتواضع نسبتها وصغر حجمها، ومما يدعو الى التفاؤل ويبعث على الامل ان القيادة الجديدة على وعي تام بهذا الامر، وعاقدة العزم على معالجته، مستفيدة من الفطرة السوية والعقيدة الدينية والتركيبة الاجتماعية التي يتمتع بها أفراد المجتمع.
وقد تجلى وعي القيادة وعزمها في الخطاب الذي ألقاه خادم الحرمين الشريفين والذي أكد فيه حرص القيادة على تحقيق تنمية متوازنة وشاملة، وبناء اقتصاد قوي متعدد المصادر مع تكثيف الرقابة لمكافحة الفساد،كما تطرق الى التصميم الجدي على الحد من البطالة ودعم مشاريع الإسكان وتوفير الرعاية الصحية،وإيجاد بيئة تسودها العدالة الاجتماعية.
ومعاناة المواطن من قصور أو تقصير قد يحصل من قبل الدولة تجاه مطالبه المشروعة وإخفاق بعض مؤسساتها في تأمين شيء مما له عليها من حقوق واستحقاقات،لا يخول له التقصير في أداء ما عليه من واجبات،وبالنسبة للانتماء الديني وصدق الانتماء للوطن والولاء للقيادة وطاعتها،فهذه قيم غير قابلة للمساس بها ولا مساومة عليها،والشرف هو شرف الدين والوطن والواجب،والمواطن يستمد شرفه منها ويتشرَّف بها.
وبالنسبة للفساد فإنه يمثل ظاهرة عالمية لا يخلو منها أي بلد من بلدان المعمورة والمطالبة بإصلاحه تعتبر مسئولية وطنية تجمع بين الحاكم والمحكوم،ولا يستأثر بها أحد دون غيره أو ينفرد بها فئة على حساب الآخرين،والدعوة الى الاصلاح تتوسل وسائل صالحة،وتستخدم أدوات ناجحة بعيداً عن الزج بالوطن في مستنقع الفتن وأوحال المحن،والحاكم يعتمد صلاحه على الطاعة وصلاح المحكومين يقوم على العدل،وبصلاح الحكام والعلماء تصلح الأمة ويصلح حالها وتتحقق آمالها ويسعد مآلها،وكما قال الشاعر:
إذا سست قوماً فاجعل العدل بينهم
وبينك تأمن كل ما تتخوف
وفيما يتعلق بالحديث عن التهديدات الخارجية فإن المراكز المتخصصة في أية دولة والأجهزة ذات العلاقة في المؤسسات العسكرية عادة ما تعمل بصورة دائبة وعلى فترات متقاربة ومتعاقبة لتحديد اتجاهات التهديد المحتملة والمخاطر المترتبة على كل تهديد وما هي العوامل المؤثرة عليها والمثيرة لها،وتلك التي تؤدي الى الاسراع بوقوعها ورفع وتيرتها.
وتحرص هذه المراكز والأجهزة باستمرار على تصنيف دوائر الاهتمام على المستوى الاقليمي والدولي وانعكاساتها المحلية،وتصنيف محركات الاهتمام والوسائل المستخدمة وأساليب وطرق استخدامها،ومن ثم التنبؤ بما يحدث في هذه الدوائر من أحداث ويُبيَّت في داخلها من عداوات،وما هي التهديدات المباشرة وغير المباشرة والعمل على توقع حدوثها ومحاولة اكتشاف ذلك مبكراً لاستباقها بغية ابطال مفعولها والتقليل من فاعليتها.
والدراسات الامنية والتقارير المخابراتية دائماً ما تكون طبيعة تحليلها تتسم بالشمولية والموازنة بين الجوانب الموضوعية والافتراضية، وتحويل ذلك الى حقائق والاستفادة منها على صعيد مهددات الأمن مهما كان نوعها ومصداقية تهديدها وحجم مخاطرها،وذلك على ضوء غربلة المعلومات وتصنيفها واستخلاص نقاط القوة والضعف، ومن ثم اخضاعها للمفاضلة بموجب معايير متفق عليها.
ولضمان صحة المعلومات والتأكد من جدوى مردودها عادة ما يتم النظر من وجهة نظر الخصم من زوايا متعددة وبصورة متجددة،والتركيز على بعض العناصر بالغة الأهمية مثل جغرافية المكان،وأحوال السكان،وعناصر القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية والحضارية مع تحديد أهداف الخصوم المرحلية والنهائية، وما هي الخيارات المتاحة للأطراف المتضادة وترتيب أولوياتها وقياس مستوى تأثيرها ودرجة الاعتماد عليها،وقد قال أحدهم: من لم ينفعك ظنه لم ينفعك يقينه. وقال آخر:لا عاش بخير من لم ير برأيه ما لم يره بعينه. وقال آخر:الظنون مفاتيح العقول.
والجوار قد يكون مغنماً وقد يكون مغرماً،وربما كان هذا الجوار معدياً ناقلاً للعدوى بحيث يتسبب في نقل بعض مشكلاته وآفاته وتصديرها الى جيرانه،والبيئة المستقرة ليست كالبيئة المضطربة،وبحسب طبيعة الجوار وواقع الدول المتجاورة تكون طبيعة التهديد،فالجار المسالم يختلف عن الجار العدواني،والجار القوي يجعله منطق القوة ينظر الى الأمور بمنظار قوته بشكل مغاير لما ينظر به الضعيف والقياس على ذلك يظهر في أنماط كثيرة تفرضها كثرة المواقف وتعدد الحالات وتنوعها.
ومن أسوأ حالات الجوار أن تتحول الدولة المجاورة الى بيئة خصبة لتصدير الإرهاب الى جيرانها،وأداة لدولة أجنبية طامعة وقوة باغية ضد هؤلاء الجيران نتيجة لأهداف مذهبية وولاءات عنصرية وتقاطع مصالح وقتية،يتبناها أقلية متمردة أو جماعات مصلحية،ضحت بدينها ووطنيتها وقوميتها لصالح عدوها الأبدي، ولم تعد تأبه بمصالح وطنها العليا ولا تؤمن بانتماءاتها الدينية والقومية كما لم تراع حرمة الجوار ومتطلبات التركيبة السكانية والامتدادات الجغرافية.
والتهديدات التي تواجه المملكة كانت في الزمن البعيد تهديدات محتملة،ثم صارت في الزمن القريب تهديدات ماثلة، واليوم أصبحت تهديدات حاصلة، واتسعت قاعدتها، وتعددت مكوناتها وزادت تعقيداتها،والانتظار حتى وقوع الفعل ثم رد الفعل قد يصلح في حالات معينة ولكنه غير صالح في حالات كثيرة،إذ إن ردود الأفعال لا يعوّلُ عليها في جميع الأحوال والمبادرة لا تقارن بالمدابرة،واستباق التهديد لإفشاله ومواجهته بتهديد يبطل مفعوله أو يحد من تأثيره هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع التهديدات المعادية بما في ذلك خلق تهديدات ضد الخصم من أطراف جانبية وإشغاله بنفسه وإفساد مخططاته وإرباك حساباته.
والإرهاب هو أحد التهديدات التي تواجه المملكة، وهذا الإرهاب في مفهومه الصريح وتعريفه الصحيح كانت المملكة أول من اكتوى بناره واستطاعت هزيمته وكبح جماحه، وتعاملها معه ومكافحتها له يمثل إستراتيجية أمنية جمعت بين غلظة المكافحة ولطف المناصحة.