د. محمد البشر
مؤسس سنغافورا الذي توفي هذا الأسبوع كان شاباً طموحاً، عاش في عهد الاستعمار البريطاني، وكانت سنغافورة حينها جزءا من ماليزيا، وغادر الشاب الطموح مع جمع من الشباب السنغافوري إلى المملكة المتحدة للدراسة، وكان من نصيبه أن التحق بجامعة كيمبرج العريقة الشهيرة، ودرس هناك القانون وعمل محامياً، واتجه إلى السياسة، حيث أصبح عضواً في البرلمان الماليزي، وكان على خلاف دائم مع رئيس الوزراء الماليزي الأسبق رحمه الله، الذي كانت له رؤية اقتصادية تختلف مع رؤية هذا الشاب الطموح والمجموعة المناصرة له، وجلهم من العرق الصيني، بينما رئيس الوزراء الأسبق تنكو عبدالرحمن من أصول مالاوية.
استمر عدم التوافق فترة غير يسيرة من الزمن، أدى إلى توافق يقضي بانفصال جزيرة سنغافورة عن الكيان الماليزي، وكانت وقتها مجرد غابة خالية من أي مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية، وكان أمل الرئيس السابق لماليزيا تنكو عبدالرحمن، أن يثوب الشاب إلى رشده بعد أن يدرك خطأ مطالبته بالانفصال، لا سيما أن موارده الطبيعية تكاد تكون معدومة.
فكر هذا الشاب مع رفاقه في الحزب الذي أنشأه معهم وكان أميناً له واسمه حزب العمل الوطني «باب»، وأصبح رئيساً لوزراء حكومة جديدة في دولة ستبدأ من الصفر، وكان عمره آنذاك خمسة وثلاثون عاماً، وأصبح التحدي الذي كان ينشده ماثلاً أمامه، ومنطلق من استراتيجية ربما قد رسمها في ذهنه بمساعدة زملائه.
كان أس تلك الاستراتيجية، العناية بالداخل، مركزاً على الاقتصاد، والانضباط الأمني، والإعلامي، وقد وجد وما زال يجد نقداً لاذعاً في ذلك، لا سيما ما يخص حرية التعبير، وتداول السلطة، والقبضة الأمنية، لكنه لم يعبأ بما يقول الآخرون، واستمر في استراتيجيته الداخلية، وبانضباط تام وكان محاربة الفساد عنصراً رئيساً في سياسته.
لقد تبنى هذا المؤسس اقتصاداً يعتمد على الانفتاح، وحق الملكية مع مشاركة الدولة في جزء من ملكية الشركات، وفتح الباب للاستثمار الأجنبي، وأصدر تسهيلات كبيرة في هذا المضمار، ومع أنه كان محاطاً بالصين، وهو من أصول صينية، وكانت الصين آنذاك ترزح تحت حكم الفرد كما هي حالة، لكنها كانت تتبنى نهجاً اقتصادياً اشتراكياً، ومبدأً شيوعياً خالصاً، جعلها تتخلف عن ركب التقدم العالمي. كما أن ماليزيا في ذلك الوقت لا تزال بعيدة كل البعد عن التطور والنمو، ولهذا فقد كان محاطاً بنماذج غير جيدة عدا اليابان التي تبعد عنه بمسافة غير قريبة.
استمر في نهجه، وأخذ البناء والنمو بأموال الغير يرسخ وضعه مع الصعوبات المرافقة لذلك، لا سيما في بداية الأمر، وبعد أن تبين للمستثمرين صلاح البيئة الاستثمارية، أخذ الأمر في التحسن شيئاً فشيئاً، حتى ترسخت في أذهان المستثمرين أن سنغافورة لديها من الاستقرار والقوانين ما يدر المال الوفير، ويحافظ عليه.
لقد قفز الناتج المحلي من اثنين مليار دولار عام 1960 إلى نحو سبعة وثمانون مليارا عام 2002، وتضاعف ذلك عدة مرات في عصرنا الحالي، كما ارتفع معدل دخل الفرد من أربعمائة وخمسة وثلاثين دولارا سنوياً في عام 1960 إلى نحو ثلاثين ألف دولار سنوياً حالياً، وهو من أعلى المعدلات في العالم. كما أن بورصة سنغافورة حالياً ثاني أكبر مركز للتداولات المالية في آسيا بعد اليابان، أي أنها تسبق هونج كونج، وكوريا. ولعل اتجاهها لأن تكون مركزاً مالياً مهماً في آسيا مهد لها السبيل لأن تلعب الدور الذي تلعبه سويسرا في أوروبا بل الغرب قاطبة.
لقد نهج لي كوان الراحل في سياسته خارجية محايدة، متلافياً ما أمكن، الدخول في الصراعات أو التحالفات، نائياً ببلده عن متاهات السياسة، مركزاً على الأمن والاقتصاد.
لقد رحل بعد أن وضع قاعدة متينة للقيم أولاً، ثم للاقتصاد والأمن، ومن تلك القيم الانضباط والنظافة، وتطبيق القانون، ومحاربة الفساد، والصرامة في ذلك. كما عمل على وضع برامج جديدة مثل أن تكون رواتب الوزراء مرتبطة بمعدل راتب أكبر ثلاث شركات ولهذا فرواتبهم تزيد وتنقص طبقاً للوضع الاقتصادي، وكذلك يمنعهم من اللجوء إلى الفساد.
هذا نموذج حي والأمل معقود على أن يكون في منطقتنا مثيلاً مع الحفاظ على ثوابتنا.