د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** «الصخرةُ الكبيرةُ لا تحركُها الرياحُ والعقلُ الحكيم لا يفسدُه المدحُ أو القدح» كذا تناقلوا مقولة «بوذا» ومعهم آمنَّا بمدلولاتها؛ فليس مهمًا أن يصطفَّ العالمُ إلى جانبك إن آمنتَ بحقك،وليس ضروريًا أن يُحبُّوك لتعلوَ أو يَقْلُوك لتهوِيَ؛ فالأهمُّ أن تبقى صخرةً وحكيمًا معًا، وهما صفتان عصيَّتان يحتاجان إلى استعدادٍ فطري وإمكانات ذاتيةٍ ودربةٍ مستمرةٍ والتزامٍ بخطوطٍ محوريةٍ تحكمُ الفعلَ وتقدِّر التفاعل، والدولُ كالأفرادِ تحتاج إلى تجاورِالقوة والحكمةِ كي تستطيعَ قيادةَ التنميةِ الداخليةِ وتنجحَ في استثمارِ العلاقاتِ الخارجية غيرَ عابئةٍ بأصواتِ التشويش والتثبيط.
** تلك حكايةٌ أولى تكتملُ بأخرى؛ إذ يُروى أن مسؤولًا «عربيًّا» منح صحفيًا «عربيًّا» مبلغًا مجزيًا من المال دون أن يفاتحَه بشيء، وانتظر طويلًا متوقعًا مقالًا يُقابلُ هديته فلم يقرأ شيئًا ؛ما دعاه إلى الاستفسار منه فأجابه بأن ذاك ثمنُ الصمتِ أما الصوت فله هبةٌ أخرى، وهو مشهدٌ يتكررُ مذْ وُجد شعراءُ الاستجداء وكُبراءُ الاستخذاء ممن يخشون الزعيق ويُغويهم البريق.
** لا تصلحُ القوةُ المتعجرفة مثلما لا تُجدي الحكمةُ الخانعة، وزمنَ «الحزم» - والمفترضُ أن تكون كلُّ أزمنتِنا حزمًا وعزمًا - لا يأبهُ بمن يطبِّلُ ومن يُبلبلُ ومن يُهوّلُ ومن يصنع من منبرِه متكاً ارتزاقيًّا أو ابتزازيًّا كي يُستجلبَ مدحُه ويُتحاشى قدحُه، وفي تجاربنا غير البعيدةِ مع الإعلامِ الهادرِ بقيادة «هيكل - سعيد « وضعفِ ما يقابلُه من جانبنا ما يقدم درسًا حول عبثية الإعلام المضاد حين يقابله حزمٌ سياسيٌّ ،وهو ما أفشل تصديرَ الثورةِ إلينا عبر حربِ اليمن وأبطل فوقيةَ خطاباتٍ مشهودةٍ قيل في أحدها إن حذاء جنديِّ أشرفُ منا؛ تمامًا كما يفعلُ الإعلامُ الفارسيُّ وذيولُه ومأجوروه،وقد اضطُرَّ الرئيس عبدالناصر- بعد يأسٍ- إلى أن يَزورَ بلادنا ويُنهيَ الخلافَ معنا؛ما يعني عدمَ القلقِ من المحرِّضين والاعتدادِ بالمستأجَرين، ونفيَ كلِّ صوتٍ يدافعُ كي يُدفعَ له أو يُساومُ متسولًا أو حتى متوسلًا، والاتكاءَ على مكانتنا كما إمكاناتنا، ولعل المواقف القريبةَ قد أثبتت أن الأبواقَ المستعارةَ قُلّبٌ ولو بدت خُلَّبا.
** كانت لنا تجربةٌ خلال «حرب الخليج 1991م» حين اتجهنا إلى استضافةِ بعضِ كبار المثقفين العربِ في قراءاتٍ تحليلةٍ إذاعيةٍ مباشرةٍ وحَرَصنا على أولئك الذين لا يسألون مقابلًا، ويذكر صاحبكم أن مِن أبرز من تحدث معهم « يحي حقِّي 1905-1992م « وبالرغم من شيخوختِه ووهنِه فلم يبخل كما لم يسألْ، وهو مثالٌ لمن شغلهم المبدأُ ودفعتهم المحبة والتأم فيهم التميزُ وعدمُ التحيز.
** الحزم الإعلاميُّ يتطلبُ رفعَ مستوى الخطاب الإعلاميِّ الداخلي والبعدَ عن التنميطِ والمُنمَّطين؛ فالمتابعُ أوعى من أن يُسلمَ ذهنه للتكرارِ والإنشائيةِ والمديحِ المُبالغِ والتقاريرِ غيرِ الموثقةِ واللغةِ الضعيفةِ والميولِ الشخصيةِ والضجيجِ الفارغِ، ومن خبرَ الإعلامّ الغربيَّ (الأوربيَّ والأميركيَّ) فلن يعدمَ سوءاتِه لكنه سيرى الاحترافيةَ والمسؤوليةَ وكثيرًا من المنهجيةِ والعقلانية.
** الحزمُ موقفٌ وتوقف.