د. عبدالرحمن الشلاش
تعـاظمت مسئوليات الإعلام عن ذي قبل بكثير، أما لماذا؟ فلأن المتلقي اليوم ليس هو المتلقي البسيط قبل سنوات، وذلك لارتفاع مستوى الوعي واتساع دائرة المثقفين حتى شملت أفراداً من مختلف الشرائح.. لم تعد الثقافة قاصرة على النخب الفكرية، بل تعدتها لتشمل حتى رجل الشارع البسيط الذي بات يفهم في الدين والسياسة واللغة والاقتصاد والفنون والرياضة. بالتأكيد درجة الفهم نسبية لكن وجود الأرضية المشتركة بين المتلقين يعزز قدراتهم على الفهم والحوار إلى حد يصل للإقناع، وفي بعض حالات للتأثير.
أذكر قبل عشر سنوات وربما تزيد قليلاً، كان المتلقي من القراء والمشاهدين والمستمعين يقبل بأي شيء يطرح دون اكتراث بجودته وينساق خلف أي دعايات إعلامية دون وعي، وكان تضخيم وزير الإعلام العراقي الصحاف لقدرات بلاده المحدودة أمام قوات الغرب إبان حرب الخليج الأخيرة يلقى سوقاً رائجة لم يضربها في الصميم إلا سقوط بغداد. كان المتلقي البسيط في تلك الفترات يرى في قضايا سياسية واقتصادية وأخرى اجتماعية محظورات لا يجوز طرحها ناهيك عن مناقشتها وقدح زناد الفكر لتوليد حلول لها، وكانت البرامج التلفزيونية في القنوات المحلية قبل الثورة الفضائية والمقالات والأخبار الصحفية المادة الثرية للمتلقين رغم محدوديتها وتقليديتها.
في الوقت الحالي انقلبت الأمور، فمصادر الإعلام من الكثرة والتنوع ما جعل المتلقي في حيرة شديدة. لم يعد فرض الوصاية من لدن أجهزة الإعلام مقبولاً لدى أغلبية الناس، بل إن المتلقي اتجه إلى فرض اختياراته الذاتية وفق معاييره التي فضّلت قبول المواد النوعية ذات الجودة العالية في المضمون والإخراج والدقة والسرعة الفائقة، وأقبلت على المواد المدعمة بالحقائق والشواهد والإحصاءات، والآراء ذات النزعة الموضوعية. لم يعد يبحث عن الأخبار في مضامين الطرح التقليدي، فعمر الخبر أصبح قصيراً فخلال ثوانٍ أو دقائق معدودة ينتشر بين الناس، لذلك يبحث عن الرأي القوي المدعم بالتحليل وقراءة ما وراء الأخبار وطرح الأفكار الجديدة والرؤى القابلة للتطبيق.
أمام هذا السيل الجارف من التغيرات ستجد أي مؤسسة إعلامية نفسها في مؤخرة الركب إن هي أصرت على أدواتها ووسائلها التقليدية، ومنها أوعية المعلومات والكوادر البشرية والبطء في الاستجابة والتفاعل، أما الرأي وهو الشيء الذي ما زال الإعلام التقليدي يحتفظ بكثير منه، فيجب أن يُؤسس على حقائق وخلاصات ثرية من المعرفة والخبرة البعيدة عن التفخيم والتهويل وتقديم المعلومات المغلوطة، فقد أصبح كثيرٌ من الأحداث والوقائع مكشوفة أمام الغالبية.
لنأخذ مثالاً مع انطلاق الضربات الجوية لعاصفة الحزم ظهر أن هناك تعاطياً إعلامياً لم يواكب حجم الحدث الكبير، وما تحقق من نتائج واضحة على الأرض تمثّلت في تدمير كثير من قدرات الحوثيين. أشار إلى هذا الأمر أكثر من متخصص إعلامي، ومن الثغرات مثلاً عدم التركيز من قِبل بعض الإعلام على أهداف العاصفة الرئيسة وتشتيت الذهن بمناقشة ما يروِّج له المعارضون. الأعداء يضللون ودور الإعلام هنا كشف الحقائق دون تفخيم ولا تهويل، واختيار لقطات من النتائج الإيجابية وإبرازها والتعليق عليها وترسيخها، لأن مثل هذه الأمور ترفع الروح المعنوية وتهبط من معنويات العدو الذي يركز بقوة على الحرب الإعلامية للتأثير بالتمويه والتدليس والتضليل لتغطية هزيمته في الميدان. دور المؤسسات الإعلامية إعداد كوادرها جيداً من أجل إعلام حربي يواكب الانتصار الميداني ويقلل من فاعلية الإعلام المضاد.