د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تتكرر المطالبات من البعض، وعلى وجه الخصوص ممن ليس لهم اطلاع علمي كاف وعميق على أمور العلوم أو ممن هم مختصون فيما يسمى بالعلوم الطبيعية أو العلوم البحتة وليس لديهم إلمام كاف بالعلوم الإنسانية، يطالبون بتقليص تدريس العلوم الإنسانية لحده الأدنى، والتركيز فقط على العلوم الطبيعية..
غير مدركين أن المسافات بين العلوم تقلصت مؤخراً وأن العلوم تداخلت إلى حد كبير. وقد لاقت وللأسف هذه المطالبات آذانا صاغية في كثير من الأوساط المسئولة عن التخطيط في التعليم لدينا بكافة مستوياتها في وقت يتزايد معه التركيز على العلوم الإنسانية في الدول التي نعتقد أنها رائدة في العلوم الطبيعية وأنها مثال جدير أن نحتذيه.
وفي زيارة لإحدى الجامعات الأمريكية المتميزة في علوم الهندسة والحاسب الآلي ذكرت عميدة كلية العلوم الإنسانية أن هذه العلوم نمت بشكل كبير مؤخراً وأصبحت تشكل أكثر من خمسة وثلاثين في المئة من مجمل العلوم المدرسة في الجامعة. وأضافت أن هذه النسبة أخذت في التزايد بشكل مطرد. الحاجة للتركيز على علوم الإنسان تتقدم بشكل أسرع من العلوم التي تركز على الطبيعة. والفرق بين بعض أوضاع التعليم لدينا ولديهم هم أنهم يدرسون ويخططون ثم ينفذون، بينما نحن في بعض الأحيان ننفذ بدون دراسة كافية أو وفق دراسات انطباعية ثم نقيم النتائج فيما بعد، وغالباً ما تأتي النتائج غير متوافقة مع توقعات الدراسات أو عشوائية غير قابلة للتقويم فتدفن المشاريع التي كلّفت أموالا طائلة في ظلمات أدراج البيروقراطية، ونبدأ من جديد بمشاريع مماثلة نكتشف فيما بعد أنها غير ما توقعنا، وتقليص الدراسات الإنسانية هو من هذا النوع من البرامج.
وهناك اعتبار أولي يتعلق بالتعليم وهو لا يتعلق بالعلم الذي يُعلم وإنما بأسلوب وكفاءة تعليمه، وهذا ينطبق على أي علم يدرس طبيعي أو إنساني، وكذلك أساليب التفكير التي تتعامل مع هذه العلوم. وما زال تعليمنا للأسف يركز على الجوانب البيروقراطية أكثر من الجوانب التعليمية. وقد سمعت من بعض الزملاء العاملين في مؤسسات بحثية لدينا في مجالات علوم طبيعية محظية وليست إنسانية أنهم ينجحون في إقناع الجهات بتوفير مختبرات وأجهزة حديثة مهمة باهظة الثمن لأبحاثهم، إلا أن الإجراءات البيروقراطية والمالية التي يلتزم اتباعها لتوفير المواد التي تعمل بها الأجهزة رغم انخفاض ثمنها تكون من التعقيد والبطء مما يعطل الاستفادة من الأجهزة الأساسية. فهناك نظام للعهد يتطلب الباحث أن يكون مسئولاً عن الجهاز ومواده مما يسبب الإحباط لدى الباحث فيصرف النظر عن البحث وتبقى الأجهزة الأساسية معطلة حبيسة المختبرات، أو يحصر العمل على الجهاز في باحث واحد فقط لأن الجهاز عهدة عليه. والتدقيق المالي في العهد يكون دقيقاً في الملاليم بالأسلوب ذاته مع الملايين، وفي كثير من جوانبه البيروقراطية محبط.
ومما يلاحظ في الجامعات العالمية هو تقلص الرتب والمزايا البيروقراطية إلى حده الأدنى، بينما في بعض الأحيان لدينا ينظر البعض لمراكزهم البيروقراطية وكأنما هي مزايا لهم، وكما يقال فالفائز بالمركز البيروقراطي الأول يحصل على كل السلطة والمزايا مما يمكنه من اتخاذ قرارات قد تصب في مصلحته الشخصية لو أراد بشكل مباشر أو غير مباشر بشكل أكبر مما يخدم مصلحة العملية التعليمية. ولوائحنا التعليمية بلا شك جيدة ودقيقة ولكن المسافة بين النظام والتطبيق واسعة جداً. وهذا ينطبق وللأسف على الأموال الطائلة التي تدفع لأهداف علمية وبحثية خاصة ولبعض المراكز العلمية خارج الجامعات حيث يتولاها أحياناً أناس بعيدون عن تخصصاتها فتستهلك الميزانيات في المصاريف الإدارية واللجان ويتم التركيز بشكل خاص على ما يسمى بالخبرات الأجنبية التي هي في معظم الأحيان أسوأ بكثير من الخبرات المحلية لكنها توافق على كل ما يطرح عليها لأنها تنظر لنا على أننا حالة خاصة.
وعوداً على العلوم الإنسانية فهي اليوم تتبع مناهج غاية في الدقة تضعها منهجياً فيما لو طبقت بشكل صحيح، على درجة دقة مشابهة للعلوم الطبيعية. وكثير من العلوم الطبيعية اليوم كالحاسب الآلي تعتمد على علوم إنسانية في المنطق، وعلوم الإدراك، وعلم النفس. وما زالت كثير من الأمور العلمية الطبيعية مثار جدل يدفعها دائماً للتجدد والابتكار منهجاً وأسلوباً، ولا زال مجال فلسفة العلوم الموجه الرئيس أو البوصلة التي تحدد اتجاهات هذه العلوم. لكننا وللأسف نحظر تدريس المنطق والفلسفة بناء على اعتقادات غير صحيحة من أن الغاية من الفلسفة هو التعرض للذات الإلهية. ولكن الفلسفة التي تسمى أم العلوم، تشتمل على أكثر من عشر مجالات، ومنها تنطلق أسس جميع العلوم الطبيعية والإنسانية على حد سواء.
والعلوم الإنسانية لا تعنى بتوفير الحاجات الطبيعية للإنسان بل بعقل وسلوك الإنسان بالدرجة الأولى وبالأمور التي تتحكم بهذا السلوك والحالات العقلية والجمالية من حوله. فالعلم الطبيعي تقنياً يصنع السيارة والعلوم الإنسانية تحدد وتنظم استخدامها وسلوك من يقودها. والطب يقدم العلاج للمريض، والعلوم الإنسانية تقدم الثقافة الإنسانية التي تمكن الإنسان من العيش حياة صحية، وتوعيه بالأهمية الصحية والجمالية للبيئة من حوله. فالعلوم الإنسانية تهذب النفس وتجعلها في وئام مستمر مع المجتمع والبشرية. وهي باختصار تجعل الإنسان أكثر إنسانية، ولذلك لا غرو أن بعض الفنانين والشعراء المرهفين لهم خلفيات علمية طبيعية وطبية.
والعلوم الإنسانية أيضا مهمة اقتصادياً بشكل أكبر مما يتصور البعض منا. فالتصاميم التقنية للمنتجات الصناعية تبنى أساساً على دراسات سلوكية للإنسان لتلمس حاجاته ومعرفة التصاميم الجاذبة له. وهي تبنى على تحليل توقعات احتياجات وتفضيل المستهلك النهائي. كما أن كثيرا من دراسات الاقتصاد الجزئي تعتمد أساساً سياسات تسويق تعتمد على دراسات إنسانية. ونجاح الشركات العالمية العابرة للقارات يعتمد كثيراً على تقديم منتجات ذات جاذبية في الثقافات المختلفة. وانتشار الحواسب الآلية عالمياً اعتمد في كثير من جوانبه على دراسات لسانية لغوية، وعلى النظم اللغوية البينية.
والدراسات الإنسانية مهمة للتصميم أيضاً سواء كان ذلك معمارياً أو صناعياً أو حتى غذائياً. والفرق بين المدن الجميلة والمدن القبيحة هو وعي المخططين العميق بهذه الجوانب. فبينما يكون طابع المدن التي تأخرت في التخطيط عشوائياً ليس من حيث الشكل بل ومن حيث الوظائف أيضاً. وهناك مدن كبرى في العالم أقدمت على مشاريع كانت مثار سخرية في البداية ثم تحولت لمزارات سياحية فيما بعد لأن فكر التخطيط العلمي للمتخصصين سبق ذائقة العامة. ولا شك أننا اليوم نقتني منتجات جديدة من أجل جمال تصميمها فقط.
وكثير مما نستهلكه في حياتنا بشكل غير منظور هي منتجات إنسانية: أفلام، برامج تلفزيونية، كتب، صور، إعلانات إلخ.. وهي مربحة وبعضها أكثر ربحاً من المنتجات الصناعية. وقدرة الإعلام في التأثير على الآخرين وخلق صورة إيجابية لديهم عن الذات الوطنية أمر لا يحتاج لتأكيد، فصورة شعب ما خارج حدوده يعتمد إلى حد كبير على الصورة التي يصنعها لنفسه بشكل مدروس ومخطط. وهذه لصورة مهمة لاستهلاك منتجاته، فألمانيا اشتهرت بإتقان الصناعة حتى في أوربا ذاتها، ولو أنتجت منتجاً رديئاً ينظر له على أنه متقن. وهذه الصورة تعتمد إلى حد كبير على تصور العالم عن ثقافة الآخر. فدبي مثلاً تعد اليوم مثالاً عربياً جداً لخلق صور إيجابية في الخارج، فلو قال أحدهم أنه عربي، أو أنه من دبي لاحظ اختلاف كبير في تقبل الآخرين له. فالانفتاح الإعلامي، والمشاريع المدروسة ذات البعد العالمي أدخلت هذه الإمارة الصغيرة للخارطة العالمية للمدن الكبرى.
لهذا كله أعتقد أن ما يجدر بنا هو إعادة النظر ليس في تقليص تدريس العلوم الإنسانية، بل إعادة النظر في أساليب وطرق تعليم هذه العلوم، والبيروقراطية التعليمية عموماً، وإدخال العلوم الأساسية لهذه العلوم في المناهج.