د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
نحن كعرب، شعوبٌ جُبلت على التنقل والترحال، وذلك بحكم طبيعتنا القاسية وبسبب صعوبة الحياة في صحارينا وفيافينا التي ترينا الأرض امتداداً لا نهاية له، والسماء فضاءً مفتوحاً يتلالأ بالنجوم يلهم القريحة والخيال، ويريح النفس، ولذلك قيل إن الشعر صنعة العرب،
والكتابة صنعة الفرس.
وذكر العرب للسفر سبع فوائد منها: تفريج الهموم والترويح عن النفس، وذلك بتغيير المكان والطبيعة والبشر.
وفي السفر أيضاً فرصة لطلب الرزق لمن أراد أن يتاجر، ويبحث عما هو جديد ومفيد عند الشعوب الأخرى، ليجلبه ويبيعه.. وقد يُرزق المرء من سفر رزقاً لم يكن يدركه قبل سفره.. وقد يرحل الإنسان لطلب العلم، كما يفعل كثيرٌ من أبنائنا المبتعثين وفقهم الله، حيث توزعوا في كافة أصقاع الأرض.. ومن فوائد السفر أيضاً تحصيل وتهذيب الآداب، فقد يستحسن المسافر بعض آداب الشعوب التي يسافر فينقلها لثقافته.. وفيه صحبة للكرام لو وفق الإنسان في أخيار يُصاحبهم في السفر، فتتوطد أواصر العلاقة بهم في السفر، كما لا يمكن أن يحصل في أي نشاط آخر.. ومنه أيضاً استجابة للدعاء، فدعاء المسافر مستجاب - بإذن الله -.. وأخيراً فالسفر يصقل خبرة المسافر في التعامل مع الناس والأماكن الجديدة.
وتسهلت أمور السفر اليوم وتيسرت، وأصبح الناس لسهولة السفر يطلقون عليه «سياحة»، لزوال المشقة وتوفرت الإمكانيات للتنقل والاتصال والتواصل مما قلل من التغرُّب في السفر، فالناس على تواصل دائم مع من يحبون ويعولون مما يتيح للنفس أن تسيح وتسوح بدون مشقة تُذكر أو غربة تُوحش، فلا يمكن مقارنة سفر اليوم بسفر الأمس إلا في التنقل في المكان فقط.. وبما أني أكتب هذا المقال على بعد آلاف الأميال (مئات آلاف الفراسخ) من الوطن، فقد أحببت أن أشاطر القارئ الكريم بعض خواطر سفري، وبخاصة فيما يتعلق بتحصيل العلم والآداب، فسفري في جانبه الأهم كان لتحصيل العلم وحضور منتدى علمي سهّلت أمره جامعة الملك سعود، حيث أعمل ولها في ذلك خالص الشكر والتقدير.
بدأ الاختلاف في آداب السفر من ساعة ركوب الطائرة الأجنبية، تلك الدابة الجديدة الضخمة المخيفة، فقد كان الركاب جميعهم في غاية التهذيب والهدوء إلا جاراً لنا في المقعد من بني جلدتنا أشغل ساسة الدابة بالأسئلة والتبرم فتبيّن عليهم كتم غيظهم وضيق ذرعهم، وكان سبب التأخر في إغلاق باب الطائرة لتخلف أحد الركاب عن الركب بينما شُحن عفشه عليها، وقد فتح صاحبنا ما هو أشبه بمحضر تحقيق مع طاقم الطائرة الذي كان في منتهى التهذيب في التعامل معه، وكأنما هو غر صغير.
وكنا قد أقلعنا من مطار عاصمتنا، وهو ليس في أحسن حالاته بُعيد موجات من الغبار لخبطت جداول السفر، فكانت الفوضى ملحوظة واتضحت براعة المخضرمين في السفر في الالتفاف حول الأنظمة وطوابير الانتظام، وبدأ الأمر وكأنما هذه الفوضى متعمّدة لاختبار الذكاء الفوضوي للمواطنين.. واستغربت كثيراً أنه حتى في أمور التفتيش الأمني الداخلي كان هناك من حاول تجاوزي بدون سبب، لأنه قال لي بكل أريحية عندما اعترضت: يا رجال لا تدقق!، وباختصار كانت الفوضى الخلاّقة هي روح المطار السائدة.
والعجب أنه فور الوصول لمطار الوصول تغير الحال تماماً، وانتظم العربان كما تنتظم القوافل تقطر بعضها بعضا في الصحراء.. ونزل بهم أحياء وحلت بهم السكينة بشكل يدفع فعلاً للعجب والإعجاب.. العجب من هذا التغير المفاجئ، والإعجاب بقدرة الأعراب على التأقلم السريع.. استبدل الناس العنجهية بالهدوء، والعجلة بالتأني.. وظهر صاحبنا الذي ملأ الطائرة ضجيجاً في نهاية الطابور، وكأنما هو بطارية أفرغت شحنتها في جهاز آخر، وانتهت صلاحيتها.
وعندما وصلنا بحمد الله وشكره، أحسسنا أولاً بانتظام مفاجئ في ذواتنا لم نعرف له سبباً، ربما يكون ذلك بتأثير الطقس الرطب الممطر، أو ربما يكون بروح النظام التي تسكن تلك الأصقاع، حتى إني بدأت أفكر في علاقة الغبار بالفوضى، هل يكون الغبار والحر سبباً في انفلات الأعصاب الخاصة بالنظام والانتظام لدينا.. فالجميع هنا يحترم بعضهم بعضا، وقبل ذلك هناك احترام لعملهم وواجباتهم وما يقومون به.. وهم في غالب الأمر لطيفون يقدمون المساعدة حتى دون طلب لها.
ومما لفت انتباهي حفاظ القوم على تاريخهم، فهم لا يهدمون قديماً حتى ولو كان آيلاً للسقوط إنما يبنون حوله، فتحس وأنت تجول أحياءهم بأنك تعيش تاريخهم، والعمل والبناء لا يتم بشكل عشوائي، وإنما بشكل منسجم ومتناغم، ولذلك تجد مدنهم وطرقهم غاية في التناغم والتنسيق مما يجعل النفس تسيح فيها وترتاح.. ومن الملاحظ طبعاً ألا تشاهد مناظر الأرصفة المكسّرة، أو علامات الإرشاد وإشارات المرور المصدمة في كل مكان كما هو الحال لدينا، حيث توجد عداوة متأصلة بين بعض شبابنا، وبينما كل ما هو قائم في وحول طرقنا.. كما يلحظ الإنسان انتظام السير بشكل يجعل القيادة أمراً مريحاً ميسراً، فلا يضطر الإنسان لتشغيل حواس استشعار الحوادث من كل جانب.. وبالطبع لن تجد لديهم من يخطم أمامك في الإشارة أو يقف عرضاً أمامها، ولا شك أن التخلص من حواس استشعار أخطار الطريق يأخذ وقتاً ويتطلب قليلاً من التأقلم، للانتقال من نظام من سبق لبق إلى نظام الاحترام سيد الأخلاق.. ثم هناك التعامل التجاري بكل أمانة وصدق فكل شيء ميسر: الشراء الاستبدال، والأسعار لا تكاد تلحظ اختلافاً بينها في الأماكن المختلفة، وهذا يجعل المتبضع يدفع ثمن البضاعة وهو مرتاح البال، والأمانة بالطبع أساس التجارة، وكان أجدادنا مثالاً يُحتذى في ذلك حتى إنهم نشروا دينهم وأخلاقهم في كافة الأمصار بحسن تعاملهم.
أما فيما يتعلق بالعلم، فالناس يركزون على جوهر العلم لا مظاهره: بساطة في المكان والملبس والمأكل، وتركيزاً أكبر على ما يُقدم في المؤتمر.. لا بذخ ولا إسراف، لا افتتاحيات ولا رعايات، الحضور جميعهم وبكافة رتبهم العلمية ومكانتهم العلمية والاجتماعية يجلسون على المقاعد ذاتها، ويتناولون الطعام ذاته، وهم لا يتبادلون الألقاب إلا عند الحاجة فقط، فيحس من يحضر أنه في محفل علمي حقيقي حيث العلم هو المطلب، وليس في مناسبة احتفالية أو اجتماعية.. وما ينطبق على التنظيم فيما يتعلق بالطرق ينطبق على التنظيم والتعامل أيضاً في المناسبات العلمية، فالجميع منتظم يعرف ما له وما عليه.. كما تحس في جامعاتهم والتي تقع في كثير من الأحيان في بلدات صغيرة، أنك في مدن جامعية حقيقة، فالناس تعيش وتعمل وترفه عن نفسها في محيط الجامعة ذاتها، فالمدينة الجامعية تعج بالحياة ليل نهار والناس لا هم لهم ولا مطلب إلا العلم.. والحياة في محيط الجامعة ميسرة ومتاحة للجميع، فالأثرياء الذين لا علاقة لهم بالعلم يبتعدون عن الجامعات والمرافق الأخرى التي تهم الناس كالشواطئ والمنتزهات مما يحسسك أن الحياة الكريمة للجميع.. وأهم من ذلك كله عدم حاجة الناس لمن يحرس تصرفاتهم وأخلاقهم فهم تربوا على عدم التدخل في الغير واحترام حقوق الآخرين، ولا يحتاجون لمراقبة دائمة.