د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كثر الكلام -مؤخراً- عن رسوم على الأراضي البيضاء التي تمت الموافقة مؤخراً عليها، وتحمس لها كثيرون منهم بعض الاقتصاديين وغيرهم من المحللين رغم أن تفاصيل حجمها وتنظيمها لم تصدر بعد. وكما يقال فإن العقبات (الشيطان) دائماً يكمن في تحديد التفاصيل. وطغت الحماسة في بعض الأحيان على العقل حتى إن البعض
تجاوز على تجار العقار بتسميتهم بتسميات غير لائقة مثل «تجار التراب» أو غير ذلك من الألقاب، وكأنما الأراضي في الدول الأخرى ليست من تراب بل من تبر!! فالجميع يعرف أن العقار قطاع اقتصادي مهم لا تسمح دولة عاقلة له بالانهيار. وقيمة الأرض عادة ليست في كونها «تراب أو خشب» بل في الأنشطة الاقتصادية التي تشيد فوقها. ومع ذلك فنتمنى أن يعود التنظيم العقاري بالنفع على الاقتصاد الوطني دونما إضرار بأية فئة من فئات المستثمرين.
ونشرت صحيفة الإيكونوميست لهذا الشهر مقالاً بعنوان «أراضي المدن: الفراغ والمدينة» يتطرق لمشاكل غلاء المساكن في المدن الكبرى في العالم كلندن ونيويورك وبومباي وغيرها، حيث ارتفعت بشكل كبير جداً جعل السكنى في هذه المدن مقصوراً على الفئات الميسورة جداً وهي فئات عادة غير منتجة، بينما دفع الغلاء بالفئات المنتجة إلى خارج المدن التي يخدمونها وتسبب في أضرار اقتصادية مضاعفة مثل الضغط على المواصلات، وضياع الوقت والجهد والمال. وهذا يدلل على أن مشاكل الإسكان عامة ومعولمة وليست ظاهرة خاصة بنا حصراً. فارتفاع أسعار الأراضي ظاهرة عالمية، فهي ارتفعت في العشر سنوات الأخيرة في هونج كونج 150 في المائة، وبلغ سعر المتر المربع السكني في وسط لندن في منطقة «المي فير» 82000 جنيه إسترليني (ما يقارب 500000 ريال)، وارتفعت بشكل مضاعف في كل مكان من الصين للأرجنتين.
وترى الإيكونوميست أن الإشكال الأساسي ليس في الأرض ذاتها إذ إن كل سكان أمريكا، حسب زعمها، يمكن أن تستوعبهم ولاية تكساس وحدها بشكل يزيد نصيب كل أسرة فيها على مئة متر مربع. فالأمر لا يتعلق بالتوزيع أو المساحة فقط بل يتعلق بالخلل بين العرض والطلب. والخلل في العرض والطلب ليس مصدره الاحتكار فقط بل سوء سياسات التخطيط الحضرية في المقام الأول، فالمحتكر يحتكر لأسباب محددة ويفك احتكاره لها بمجرد انتفاء تلك الأسباب. وهو يحتكر المعروض القليل فقط، وكلما اتسعت الرقعة صعب احتكارها.
مقال الإيكونوميست بدا لي ذي علاقة بما يراه البعض أنه أزمة سكن في بعض مدن المملكة بحيث ارتفع أسعار الأراضي بشكل كبير صعّب على المواطن متوسط الدخل الحصول على سكن ميسر بناء على دخله وما يحصل عليه من مساعدة من الدولة، أي بعبارة أخرى الخلل الموجود بين العرض والطلب في مدننا الكبرى حيث يعزو الكثيرون ذلك إلى احتكار مزعوم للأراضي بهدف رفع أسعارها. ويرى آخرون أنها بسبب البطء في تطوير الأراضي البور وجعلها صالحة للطرح في سوق الأراضي السكنية. وكذلك هناك من يرى أنها ذلك لأسباب مركبة تضم العاملين السابقين إضافة لأمور أخرى تتعلق بالتخطيط الحضري للمدن لدينا، وفشلنا بالتنبؤ ولو بشكل تقريبي بسرعة توسع المدن لدينا، وعدم الأخذ بعين الاعتبار النمو السكاني المطرد في المدن نتيجة للتكاثر والهجرة وتزايد الطلب على الخدمات، وأخيراً لتدني نسبة ارتفاع دخل الفرد مقابل التضخم.
المهم في مقال الإيكونوميست هي أنها ترى أن ندرة الأراضي وقلة العرض في هذه المدن مفتعلة وليست حقيقة والسبب هو فشل سياسات تخطيط الأحياء ومنع التمدد العمودي وتحديد عدد السكان في الحيز العمراني المركزي.
هذه العوامل فرادى أو مجتمعة تسهم في رأي المجلة في افتعال زيادة أسعار الأراضي. وهي ترى أن هذا الارتفاع مكلف جداً على الاقتصاد والمجتمع. فقد أظهرت دراسات أكاديمية حديثة أن تنظيمات الأراضي المكتبية، على سبيل المثال، في غرب لندن رفعت الأسعار 800%، وفي باريس وميلان ما يقارب 300%. فالأرباح الضخمة جداً التي يحصل عليها ملاك هذه الأراضي مصدرها الأساس ليست القيمة الفعلية لهذه الأراضي بقدر ما هو بسبب انعدام وجود خطط لبناء أحياء مكتبية منافسة لها بسبب قيود التخطيط الحضري عليها. أي أنه بعبارة أخرى سياسات تخطيط المدن هي ما يفتعل الارتفاعات الجنونية للأسعار داخل المدن. وهو يضاعف هذه الخسارة على الاقتصاد القومي مع دفع القوى العاملة الشابة خارج المدن، ويقلل من إمكانية استغلالها. وترى الإيكونوميست أن انخفاض أسعار التنقل في القرن العشرين كبح جماح ارتفاع الأسعار المكتبية، إلا أن ظهور الاقتصاد الرقمي دفع لضرورة اجتماع مجموعات كبيرة من العاملين في رقعة واحدة فأشعل الأسعار ارتفاعاً.
الإيكونوميست تطالب بفرض ضرائب (رسوما) على الأراضي لأن الضرائب اليوم على البنايات فقط، ولكنها لا ترى فرضها على الأراضي البيضاء بل على الأراضي المبنية، لماذا؟ لأن ذلك سيدفع الشركات إلى الخروج من مراكز المدن والبحث عن مواقع جديدة مما سيزيد من هذا معروض المباني المكتبية وخفض سعرها. أما فيما يتعلق بالأراضي السكنية فمشكلتها الأساسية في التوزيع الديمغرافي فيها، فكلما اقتربنا من مراكز المدن يجب أن تقل نسبة الحيز الفراغي الذي يستغله الفرد، وذلك من أجل وضع أكبر عدد ممكن من السكان في الفراغات المتاحة لأن المرافق ووسائل المواصلات تتكثف في مراكز المدن. فالرسوم تتناقص كلما زاد الساكنين في المساحات الفراغية المبنية وليست البيضاء. فالفرد الذي يسكن في ألف متر لوحده يدفع رسوماً أكثر من خمسة يسكنون في مئة متر. وتزاد الرسوم كلما اتجهنا نحو مراكز المدن المكتظة.
أما الأمر الآخر فهو سياسات تحديد البناء في الأحياء أو ما يسمى «الزوننق»، فالمدن التي تتمدد رأسياً تستوعب سكاناً أكثر على مساحة أرض أصغر من تلك التي تتمدد أفقياً، وينطبق ذلك على الأراضي السكنية والمكتبية على حد سواء. واحتكار الأراضي بالنسبة للإيكونوميست يتعلق باحتكار أنماط البناء على الأرض وليس الأرض ذاتها. وتخطيط الأحياء يجب أن يكون وفق الأنشطة المقامة أو متوقع إقامتها عليها. فيجب أن يكون طابع أراضي الأحياء حول الجامعات، أو المدن الصناعية طابع تمدد رأسي لا أفقي لأنها عادة أماكن اكتظاظ سكان متوقعة. ومالك الأرض في هذه الأحياء حر في أن يتمدد أفقياً أو رأسياً إلا أن الرسوم التي يدفعها هي رسوم تمدد رأسي محددة بحد أدنى للارتقاء. فالرسوم يجب أن تكون آلية لتنظيم الأحياء المبنية وليس البيضاء، وفرضها بالشكل الصحيح سيدخل الأراضي البيضاء لسوق العقار. أما الرسوم بهدف إجبار التجار على البيع فهي إضافة لكونها عشوائية قد تكون مضرة بقطاع اقتصادي مهم. ما نحتاج إليه هو تخطيط حضري أدق وسياسات عمرانية مبنية على حقائق ودراسات فعلية وليس على عواطف وتوقعات.