أمل بنت فهد
في مدرسة ابتدائية اطلعت على أول رواية بوليسية مصورة.. استعرتها من مكتبة المدرسة المتواضعة جداً.. وهي فعلياً مجرد بضعة أرفف تحتضن مجموعة كتب جُمعت بمجهود شخصي من إحدى الإداريات التي أذكر وجهها لكني نسيت اسمها.. وتبعتها المرحلة المتوسطة بمكتبتها الثمينة المختلطة بنتاج عقول عربية وأجنبية.. وكانت حصة الإنشاء التحدي الكبير مع معلمة آمنت بحرية القلم.. فأخرجتنا من دائرة التعبير عن (الربيع.. السياحة.. إلخ) والتي كانت جامدة وأبعد ما تكون عن مداركنا.. إلى رحاب التعبير الحر.. وكتابة القصة.. وترجمة ارتعاش الذات والمشاعر.. في مرحلة كانت تمور بداخلنا ونحتاج ثغرة لنخرجها لعين تفهم أبعاد المرحلة.. لكن في مرحلة الثانوية كُنا نمرر الكتب من تحت الطاولة.. وتعلمنا طرقاً شتى لإخفاء معالم الكتب لتكون في الحقيبة كأنها ضمن المناهج الدراسية علها تسلم من يد التفتيش في كل جولة تقام لنفض الحقائب المدرسية.. لأن أي كتاب أو كتيب خارج نطاق المنهج.. ممنوع ممنوع.. لابد أن يصادر.. أو تعاقب الطالبة بحسب خطورة المحتوى.. قد يصل تقييم الخطر لاستدعاء ولي الأمر لأخذ تعهد خطي وليعلم أن ابنته خارجة عن قانون التلقين.. والتهمة حيازة كتاب!
الحصول على كتاب غريب أو مختلف إنجاز يستحق الاحتفاء.. ويمكن للكتاب أن يدور بين بيوتنا كل واحدة تقرأه وحدها.. واليوم المهيب هو يوم مناقشة الأفكار والذي لا يتم حتى تكتمل دورة القراءة حتى لا نحرق التفاصيل والقصة ومن ثم يعود الكتاب لصاحبته.. هي أشبه بعملية تهريب شريفة.. شاءت العقول المتحجرة أن تجعلها شاقة ومريبة وخطيرة.. تلك الذكريات بعثها من مرقد السلام حوار ما أن يُغلق حتى يفتح من جديد.. لماذا لا نقرأ.. ولماذا نفسنا قصير ويكاد ينقطع عند ملاحقة العقول والتجول بداخلها من خلال ما تخطه الأنامل.. وكيف مررنا بدورة الانغلاق الحمقاء.. كيف نزعت الكتب من المكتبة المدرسية واستبدلت بكتب أخرى لا يمكنها أن تفتح شهية الاطلاع.. بتوجه واحد.. ومعايير ثابتة.. ولا يهم إن كان المحتوى جاذب أم طارد.. كيف تم تصنيف بوح القلم في كشكول الطالبة من بذرة نجومية إلى خربشة تهدد الحياء والفكر.. ويمكن لأي سلطة مهما تناهت بالصغر أن تنتهك تلك الخصوصية بقوة الأنظمة والتعاميم!
كان بيننا مواهب اجتثت بفعل أحمق.. قليل منها قاومت ووصلت إلى النور.. وكثير منها ردم وانتهى أمرها.. ومع ثورة الاختصار في الزمن الحاضر.. خسرنا إمكانية القراءة العميقة رغم توفر أي كتاب بضغطة زر.. بدون قراءة تتقلص المعرفة.. ويشيخ الذوق.. وتنتصر ثقافة الأرصفة والكبت والجهل.. ويبقى الصراع سيد الموقف.. صراع طائفي.. صراع عنصري.. صراع السخافة.. صراع الموضة.. صراع الإشاعات.. صراع الخرافات.. صراع الفتاوى.. صراع تفسير التفسير.
فكيف نعيد هيبة الكتاب.. ليكون للفهم ونخرج من مطب القراءة السطحية للجدل.. تلك العاهة التي تعدم العقل.. اختصرها فرانسيس بيكون حيث قال: «لا تقرأ لتعارض وتفند.. ولا لتؤمن وتسلم.. ولا لتجد ما تتحدث عنه.. بل لتزن وتفكر».