د. محمد البشر
فتح المسلمون صقلية عام 211هـ، وكان ذلك في عهد زياد بن الأغلب والي إفريقية، وقد تولى فتحها أسد بن الفرات، واستمرت كذلك، ولم تخضع لحاكم عربي واحد حتى أيام بني أبي الحسن الكلبين، الذين كانوا في واقع الأمر مستقلين، وإن كانوا يتبعون الخلافة الفاطمية بصورة شكلية، وبلغت تلك الجزيرة درجة عالية من التقدم العلمي والأدبي، حتى هبت رياح الفتنة بين أبناء حكامها فتقاسموها، وتحاربوا فيما بينهم إلى أن استعان أحد أولئك الحكام بالنورمانديين الموجودين في إيطاليا القريبة، فسلمها لهم، لكن أهلها لم يستسلموا وحاولوا المقاومة ببسالة، لكن لم يستطيعوا الصمود، لفارق العدد والعدة.
لقد أدى الفتح النورماندي إلى هجرة الكثير منهم إلى مصر، والأندلس، والقيروان، وكان ذلك في عام 474هـ، ومع ذلك فقد بقي عدد من المسلمين في صقلية تحت حكم روجر النورماندي لاسيما أن النورمانديين لبسوا عباءة الحضارة العربية وزينتها، لهذا فقد عاش في بلاطها عدد غير قليل من الأدباء والشعراء، ولعل تلك الصورة الجميلة قد تمثلت في كتابين جميلين أحدهما «الدرة الخطيرة» والثاني «المختار من النظم والنثر لأفاضل أهل العصر» والأول لابن القطاع، والآخر لابن بشرون المهدي، ومع كل أسف فلم يصلنا من دواوين أهل ذلك المصر سوى ديوانين هما ديوان ابن حمديس الذي نحن بصدد الحديث عنه في هذه العجالة، وديوان آخر للبلنوني، وهو شاعر صقلي قضى أغلب عمره في مصر والمشرق، وتناولت الكتب في المشرق والمغرب بعضاً من شعر أبي العرب الصقلي مستخدمين ذلك من ديوانه، لكن ذلك الديوان لم يصلنا، وضاع مع كثير من الكتب الرائعة، التي ضيعها الإهمال والحروب، ويمكننا القول إن صقلية أحد المنافذ المهمة التي انتقلت منها الحضارة العربية إلى أوروبا التي تنعم بذلك النتاج في عصرنا الحديث.
عاش عبدالجبار بن حمديس في صقلية وربما من سوء حظه أنه قد عاش في الفترة من 447 إلى 471هـ هناك، وهي فترة حروب وفتن، وكذلك سقوط مدينة أو قل إن شئت محبوبته في يد النورمانديين، ومن خلال شعره، فهو كثيراً ما يفتخر ببلده أكثر من فخره بقبيلته الأزدية العريقة، وهذا خلاف أولئك الذين عاشوا في تلك الأصقاع لاسيما الأندلس، الذين يفاخرون بانتمائهم العرقي، أكثر من انتمائهم الوطني. ووالده أبو بكر بن محمد، قد امتد به العمر حتى 480 هجرية، بينما وارى جده الثرى في صقلية، وكان والده وجده ذوي علم وتقوى، ولهذا فقد عاش هذا الشاعر عبدالجبار بن حمديس في بيئة صالحة في سلوكها، ونلمس ذلك في شعره الذي نظمه في صباه، حيث كان يتحدث عن الصحة والمرض والغذاء، وطبيعة الهواء، وتوسع في المعارف والعلوم، حتى ألف كتاباً سماه «تاريخ الجزيرة الخضراء» لكنه ومع كل أسف غلبه الهوى، وزهو الشباب، فتغير في سلوكه، واتجه إلى أمور أخرى.
لم يرق له الحال في صقلية، وانتقل إلى الصحراء وعاش بين أبناء البادية، وكان يهاب البحر ويخافه، ولهذا فعندما عزم أن يذهب إلى الأندلس آثر البر على البحر، شأنه شأن الشاعر الصقلي أبو العرب الذي يقول:
البحر للروم لا تجري السفين به
إلا على غرر، والبر للعرب
وفي رحلته الأندلسية كان قاصداً ذلك البلاط الأدبي والشعري الشهير، بلاط المعتمد بن عباد، وربما أن ابن عباد قد استدعاه، وكان عبدالجبار بن حمديس عندما غادر صقلية في ريعان شبابه، وقد ترسخت في ذهنه الكثير من الذكريات التي تربطه بوطنه الأصلي صقلية بل سرقسطة بالذات، التي تعد جزءاً من صقلية.
وكانت سرقسطة تتحلى بالطبيعة الخلابة، فلما رأى زهور النيلوفر قال:
هو ابن بلادي كاغترابي اغترابه
كلانا عند الاوطان أزعجه الدهر
عندما وصل الأندلس وجد إهمالاً كبيراً، وفاقة، فكتب إلى المعتمد قصيدة بعد أن ضاقت به السبل كان آخر بيت فيها:
رفعت باضعاني إلى ما يحده
علاك، فوقع ممسكاً أو مسرحاً
فوقع له، بل تمسك بمعروف، ووصله بمائة دينار.
بعد هذه البرهة، من الانفراج توالت عليه الآلام، فقد مات والد الشاعر، وجاءه نعيه في دار الغربة، وقد ترك له وصية، يحثه فيها على البر، وفعل الخير، وقال من قصيده:
سمعت مقالة شيخي النصيح
وأرضيَ عن داره نائية
كأن بأذني لها صرخة
أراد بها عمرو يا سارية
ومات اقرباؤه وأصدقاؤه في الحروب، وتم استعباد الآخرين من قبل النورمانديين، ثم جاءته المصيبة الثانية، حيث قام ابن تاشفين المرابطي بأسر المعتمد بن عباد وسجنه في اغمات المغربية، في قصة مشهورة، وكان عبدالجبار وفياً لصاحبه، حيث كان يزوره في السجن رغم الخطر الذي قد يقع عليه، وجاءت الفاجعة الثالثة، حيث قرر الذهاب إلى بلده بإلحاح من أهله و أصروا أن يركب البحر فركبه، وهو متشائم منه، فغرقت السفينة، وماتت جاريته جوهرة، ولكنه نجا برحمة الله، ثم فقد زوجته، وفقد شبابه، واتخذ العصا، ثم فقد بصره، ودخل ذات مرة على أحد الولاة، فقال له كيف حال الشيخ، فقال: كيف حال من كان صاحب عينين، فصارتا غينين، فاستحسن الوالي كلامه، وقال له خذ هذه العصا تتعكز عليها، فمد يده، فوجده غلاماً، باعه بثلاثين دينار ليسد بها حاجته.
هكذا هي الدنيا عليه وعلى كثير من الخلف، جعلها الله زيادة في الحسنات، وتخفيفاً للسيئات.