فرانك فالتر شتاينماير - برلين:
كان الواقع الغليظ القاسي الذي عاشه العالم في العام الماضي سبباً في خلق تحديات غير عادية لألمانيا وسياستها الخارجية. ففي أوكرانيا تصاعدت الأزمة حتى خرجت عن نطاق السيطرة، مع ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وما أعقب ذلك من تصعيد عسكري في منطقة دونباس الشرقية، الأمر الذي أثار الشكوك حول صحة النظام الأوروبي بعد عام 1945. ورغم أن التدابير التي تم الاتفاق عليها في مينسك في وقت سابق من هذا الشهر تقدم الفرصة للدخول في العملية السياسية، فإن أزمات أخرى -على سبيل المثال، وباء إيبولا في غرب إفريقيا وتقدم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام- فرضت تحديات جديدة ملحة.
وفي داخل وخارج البلاد، تدور مناقشة محتدمة حول ما إذا كان من الواجب على ألمانيا أن تتولى قدراً أعظم من المسؤولية في السعي إلى حل مثل هذه القضايا. وخلال «مراجعة 2014» التي غطت عاماً كاملاً، نافش خبراء ومسؤولون وعامة الناس أولويات وأدوات السياسة الخارجية الألمانية، وحاولوا تحديد الدور الألماني في العالم. وفي نهاية المطاف، تكون النتائج ملموسة دائماً. وكنا ناجحين في بعض المجالات على مدى العام الماضي؛ وفي مجالات أخرى نستطيع، ونريد، أن نحقق الأفضل.
الواقع أن ألمانيا حظيت بتقدير واسع النطاق لالتزامها بتعزيز الحل السلمي للنزاعات، وسيادة القانون، والنموذج الاقتصادي المستدام. ولكن من الواضح من المراجعة رغم ذلك أن شركاءنا يتوقعون سياسة خارجية ألمانية أكثر نشاطاً -وأكثر قوة- في المستقبل. والتوقعات مرتفعة - وربما أكثر مما ينبغي في بعض الأحيان. لذا فإن الأمر يعود إلى الشعب الألماني في الرد على التساؤلات الصعبة: أين تكمن مصالحنا؟ وإلى أي مدى تمتد مسؤولياتنا؟ ومم يتألف باختصار «الحمض النووي» للسياسة الخارجية الألمانية؟.
لقد صمدت المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية الألمانية -الشراكة الوثيقة مع فرنسا ضمن أوروبا الموحدة وتحالف عبر أطلسي قوي سواء في ما يتصل بالأمن أو التعاون الاقتصادي- في مواجهة اختبار الزمن، وسوف تظل هذه المبادئ حجر الزاوية للنهج الذي نتبناه. ولكن يتعين علينا الآن أن نعالج ثلاثة تحديات رئيسية: إدارة الأزمة، والنظام العالمي المتغير، وموقفنا داخل أوروبا.
فبادئ ذي بدء، يتعين علينا أن نواجه حقيقة مفادها أن العولمة جعلت الأزمات هي القاعدة وليس الاستثناء. ورغم أن العولمة والثورة الرقمية تدفعان النمو الاقتصادي السريع، فإنهما يفرضان أيضاً الضغوط على الحكومات في مختلف أنحاء العالم لتلبية توقعات المواطنين المتزايدة الارتفاع - حتى في حين تقيدان بطرق غير مسبوقة قدرة الحكومات على التصرف.
في عالمنا الذي تحكمه العولمة، يشعر كثيرون برغبة متنامية في الحصول على إجابات الإجابات الواضحة والمصداقية الدائمة التي تقدمها الهويات الصريحة الواضحة المعالم. وعندما تتخذ هذه الهويات هيئة القومية أو فئات دينية أو عرقية محددة بشكل صارم، فإن العواقب تكون في الأغلب الأعم العنف الوحشي غير المقيد، سواء من خلال الإرهاب أو الحرب الأهلية.
في مواجهة الأزمات، يتعين على السياسة الخارجية الألمانية أن تعمل على تعزيز تركيزها على المصالحة، والوساطة، والمنع - أو تجازف بأن تصبح بلا خيار آخر سوى التحكم في الضرر. وألمانيا على استعداد لبذل المزيد من الجهد في هذا المجال على الصعيد الدولي. ونحن راغبون في العمل في وقت أكثر تبكيراً وبقدر أكثر من الحسم، وبطريقة أكثر جوهرية - وليس فقط عندما تصبح الأزمات حادة، بل وأيضاً من خلال التركيز على منع الصراعات وإدارة مرحلة ما بعد الصراع. وهذا يتطلب منا شحذ أدواتنا وتطوير أدوات جديدة تتراوح بين آليات الإنذار المبكر والسبل المعززة للتعاون الدولي.
وسوف نستعرض كيف يمكننا مساعدة الأمم المتحدة بشكل أكثر تأثيراً في حماية السلام وبنائه. ويتعين علينا أن نعالج بضبط النفس والحذر -وليس برد الفعل الانعكاسي- السؤال الصعب حول ما إذا كانت السبل العسكرية ضرورية لحماية الحلول السياسية. ونحن لا نعلم متى وأين قد تندلع الأزمة التالية، ولكننا نعلم أنها سوف تندلع - وأننا لابد أن نكون أفضل استعداداً للتصدي لها عندما تندلع.
ولكن لا ينبغي للسياسة الخارجية أن تركز بشكل حامل على الأزمات فحسب. بل يتعين عليها أيضاً أن تستعد لسيناريوهات المستقبل. ولأن ألمانيا مرتبطة ببقية العالم مثل قِلة أخرى من البلدان، فإن الالتزام بنظام دولي عادل وسلمي ودائم يُعَد مصلحة أساسية لسياستنا الخارجية. وهذا يعني التكيف مع التغيرات الطويلة الأجل الطارئة على معالم النظام القائم - التغيرات التي شكلها في المقام الأول صعود الصين السريع.
ومع تحرك الصفائح التكتونية للسياسة العالمية، فيتعين على ألمانيا أن تكون أكثر دقة في تحديد مساهماتها في الحفاظ على الهياكل القائمة للنظام الدولي وإنشاء هياكل جديدة. كما يتعين علينا أن نفكر بشكل أكثر عمقاً في سبل الحفاظ على المنافع العامة العالمية: البحار والفضاء والإنترنت.
ونتيجة لهذا، يتعين علينا أن نعمل على إيجاد التوازن الصحيح بين تعزيز الهياكل والمنظمات التي لا غنى عنها مثل الأمم المتحدة وإنشاء قواعد وسبل مؤسسية جديدة للحد من المخاطر الطويلة الأمد. والتحدي الأساسي هنا يتلخص في وضع سياسة خارجية استباقية تستثمر في النظام، والمؤسسات الدولية، والتعزيز الذكي للقانون الدولي.
ثم هناك أوروبا، التي تظل تشكل الأساس للسياسة الخارجية الألمانية. ولكن هناك أيضاً تحديات جديدة تتطلب إجابات جديدة. ففي المقام الأول من الأهمية، يتعين علينا أن نمنع معضلة استراتيجية في ألمانيا حيث شعرت ألمانيا أنها مضطرة إلى الاختيار بين قدرتها التنافسية في العالم الذي تحكمه العولمة وبين التكامل الأوروبي. وينبغي لأوروبا أن تستفيد من قوة ألمانيا، تماماً كما نستفيد من قوة أوروبا. وباعتبار ألمانيا الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، فيتعين علينا أن نستثمر في التكامل. فهذا هو مصدر قوتنا.
ومن ناحية أخرى، يتعين علينا أن نصمد في وجه الإغراءات التي تأتي مع مكانة ألمانيا الحالية. وبطرق مختلفة تماماً تعرض الولايات المتحدة وروسيا والصين على ألمانيا علاقة متميزة. ولكن برغم رغبتنا في الحفاظ على العلاقات الثنائية وتعزيزها مع البلدان الشريكة المهمة، فعندما يتعلق الأمر بصياغة وتشكيل التنمية العالمية فإن ألمانيا غير قادرة على العمل بفعالية إلا في إطار أوروبي صلب ومتماسك.
وليس لدينا أي سبب للتملص من هذه التحديات. وحتى في ظل الضغوط التي يفرضها عالم تحكمه العولمة، تكون الأنظمة الديمقراطية التي تناصر سيادة القانون أكثر مرونة وقدرة على الصمود مقارنة بالأنظمة غير الليبرالية التي يشيد بها كثيرون في أيامنا هذه - بما في ذلك البعض في أوروبا. ولكن هذا لا يعني أننا قادرون على نزع فتيل أي أزمة من خلال إجراءات وقائية أو التدخل الذكي. فالآن أكثر من أي وقت مضى، أصبح فهم حدود قدرات المرء يشكل جزءاً أساسياً من سياسة خارجية قابلة للتطبيق.
هذا لا يعني تبني النسبية الأخلاقية. إن سياستنا الخارجية لابد أن تحافظ على تفاؤلها وقدرتها على التصرف بمسؤولية. ولكن التمسك بمبادئنا الأخلاقية لابد أن يكون مصحوباً بتقييم واقعي للقيود. ولا يسمح ارتباط ألمانيا بالعالم، والذي كان دوماً أمراً بالغ الأهمية لازدهارنا وأمننا، بالتظاهر بأننا جزيرة معزولة أو قوة تاريخية عالمية.
في إطار أي إستراتيجية سلام فعّالة في القرن الحادي والعشرين، يتعين على السياسة الخارجية أن تركز في الوقت ذاته على منع الأزمة والدبلوماسية، وتعزيز الجهود الرامية إلى دعم التحول. وبالنسبة لألمانيا فإن ملاحقة كل هذه الأهداف لابد أن تتم ضمن إطار الاتحاد الأوروبي القوي المتكامل، حيث نتولى مسؤولياتنا القيادية عن السلام والرخاء العالميين. وألمانيا قادرة على تقديم الكثير للعالم، وسوف نفعل ذلك بكل ثقة في النفس وتواضع.
فرانك فالتر شتاينماير - وزير خارجية ألمانيا
- حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2015م
www.project-syndicate.org