زكية إبراهيم الحجي
في زمن العولمة وصدام الحضارات والحرب على الإرهاب واختلاط الرموز والمفاهيم وثورة المعلومات والتهديدات النووية.. خلقتْ كرة القدم منظومة بسطت سيطرتها على إنسان القرن الحادي والعشرين، وأصبحت هذه اللعبة تمثل نوعاً من إدمان جماعي متقد.. يبلغ فيها الانفعال ذروته خلال دورات زمنية متعاقبة، سواء على المستوى المحلي أو المستوى العالمي.. فهل أصبحت كرة القدم أفيون الشعوب في عصر العولمة.
عندما تتحول كرة القدم إلى أفيون فليس ذلك بالمعنى الواسع الذي أرادته الماركسية في يوم ما عندما وجهت اتهاماتها إلى رجال الدين لتوظيفها لحساب المجموعات التي تؤمن باستغلال الشعوب؛ لكي تبقى هذه الشعوب الكادحة والمحرومة مخدرة عاجزة لدرجة اليأس عن المطالبة بحقوقها.. ما أعنيه بأفيون كرة القدم تخدير التعب لفترة محدودة للهروب من مشاكل الحياة إلى حيث المتعة والتسلية وامتصاص الملل والروتين الذي فرضته طبيعة الحياة في هذا عصر.
في كتابه «كرة القدم بالطريقة البرازيلية» يستعرض مؤلفه البرازيلي «أليكس بلوز» نوعاً من أدب الرحلات من خلال تصويره عشق الشعب البرازيلي لكرة القدم.. فالبرازيل في نظر العالم لا يعكس صورتَها نهر الأمازون الشهير.. ولا الكرنفالات الصادحة بمباهجها واحتفالاتها الراقصة، بل يعكسها العشق المجنون لكرة القدم.. التي يجد البرازيلي سعادته الحقيقية فيها.. لكن هذا العشق المجنون لم يتمكن من إخفاء درجة الفساد المتغلغل في معشوقة الجماهير البرازيلية.. وهذا ما تطرق إليه مؤلف الكتاب؛ إذ ألقى الضوء على كثير من أوجه الفساد المتفشي في البرازيل من خلال هذه اللعبة التي جعلها مدخلاً لدراسة شعب بلاده بأطيافه وطبقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة. فإذا كانت لعبة كرة القدم هي المجال الوحيد للشعوب لممارسة حريتها كاملة دون إملاء أو إجبار أو رقابة، وإذا كانت مصدراً من مصادر البهجة والسعادة بغض النظر عن الانتصارات أو الهزائم.. إلا أنها اليوم ابتعدت كثيراً عن دورها الجميل الذي اعتادت عليه الشعوب سابقاً. ولأن كثيراً من الأمور في حياتنا أصابتها لوثة العولمة فإن هذه اللعبة الشعبية طالها الكثير من التحول.. دخلت عالم السياسة والانتخابات كما حدث في فرنسا خلال سنوات سابقة؛ إذ لعب تزامن الانتخابات العامة مع مباريات كأس العالم لكرة القدم دوراً مهماً في إضعاف حزب (لوبان)، ثم هزيمته. ولا تختلف بواعث ومنطلقات هذه اللعبة على الجانب السياسي فقط، بل رُكِلت إلى عالم الاقتصاد؛ فأصبحت سوقاً للمضاربات واستثماراً بالمليارات وصناعة للنجوم وصراعاً على المكانة والتفوق.. وقبل ذلك كله لعبت بأمزجة الجماهير وأبعادهم النفسية؛ فولدت شحناتٍ هائلة من انفعالات متناقضة، إما فرحاً، أو غضباً وتمرداً، كثيراً ما يتحول إلى مشاعر ونزعات عدوانية، قد يصعب السيطرة عليها.. وهذا ما جعل لعبة كرة القدم الأكثر شعبية في العالم لأن تكون في زمن العولمة وسيلة وغاية في آنٍ واحد. ومهما يكن فلا غرابة أن تحظى كرة القدم باهتمام كبير من مختلف الأطياف دون استثناء، فإذا كانت ذات منفعة وهدف في مجال السياسة والمال والاقتصاد.. فإنها بالنسبة لملايين الشعوب تمثل نوعاً من الإدمان الجماعي، يُمارَس بطقوس وشعارات مختلفة.