زكية إبراهيم الحجي
من يجزُّ رؤوس البشر لن يتوانى عن تدمير تماثيل من حجارة حتى ولو كان عمرُها آلاف السنين.. هذا قدر دولة سرقها الطغاة.. وحرق تاريخها الغاصبون والطغاة.. هولاكو القرن الحادي والعشرين «داعش» يسير على خطى هولاكو الذي أحرق مكتبة بغداد ودمر حضارة بلاد ما بين النهرين ومارس القتل والسلب وارتكب المنكرات وذبح الشيوخ والنساء والأطفال، حتى كانت المرازيب تجري بدماء الناس، بل بلغ الحقد منه أن أمر رجاله برمي المخطوطات في نهر دجلة ليجعلوا منه جسراً لعبور
خيلهم إلى الضفة الأخرى من النهر، فتحولت مياه النهر إلى اللون الأسود بعدما صبغها المداد الذي صيغت منه المخطوطات.. وها هو الآن هولاكو القرن الحادي والعشرين يأخذ معينه من هولاكو القديم ويمارس ما فعله.. يقتل ذاكرة التاريخ بالمطرقة مثلما يقتل رؤوس البشر بالسيف.. يشطب تاريخ الإرث الإنساني ويدمر آثاراً تمثّل أعظم كنوز العراق وعنوان حضارته.. فأي جنس بشري هذا الذي استباح التاريخ والحضارة والبشر.. وهل التدمير الذي طال كافة المكونات الرمزية لتراث العراق الثري المتنوع وحرق الكتب والمخطوطات وهدم الصروح التاريخية في ناحية النمرود وغيرها يكفيه الشجب والاستنكار والإدانة من قبل دول العالم ومجلس الأمن ومنظمة اليونسكو والجامعة العربية.
لقد أصبحت لغة الشجب والاستنكار والإدانة لغة العاجز الذي يقف مكتوف اليدين أمام الأحداث المؤلمة والاعتداءات الإرهابية البربرية المستمرة التي يرتكبها تنظيم داعش.. وعندما تقول المدير العام لليونسكو بأنها صُدِمت بقوة من شريط الفيديو الذي أظهر تحطيم وتدمير التحف والآثار العراقية التي تعود لآلاف السنين وتصفها بجريمة حرب، فأين هي من تشريعات وقوانين حماية التراث الثقافي والموروث التاريخي؟.. فهل تنتظر منظمة اليونسكو إلى أن.. وكما يقول المثل.. يقع الفأس في الرأس ليأتي بعد ذلك الشجب والاستنكار والإدانة فقط، ثم وبمرور الأيام يصبح الأمر طي النسيان، وكأن شيئاً لم يكن.
فإذا كانت اليونسكو التي قال عنها «نهرو» ذات يوم إنها «ضمير الإنسانية» قد أُنشئت على ركام الحرب العالمية الثانية وسط صيحات ملايين البشر، وهي تقول: أوقفوا الحروب المدمرة.. وإذا كانت ديباجة الميثاق التأسيسي لمنظمة اليونسكو تقول: (لما كانت الحروب المدمرة تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام)، إذن أين هو موقعها من ديباجتها التي وضعتها عند تأسيسها.. وما مصير الاتفاقيات والتوصيات والقرارات المتعلقة بحماية التراث التاريخي؟.. ألم يكن من الأجدى استباق الأحداث التي تعصف بالعالم وتقدم رؤية متكاملة ثم تبادر بتنفيذ ما نصَّ عليه ميثاق منظمة اليونسكو في مجال حماية الآثار والمواقع التاريخية لمواجهة تحديات القرن في ظل وضع دولي مثقل بالخيبة والرعب العبثي.
إن نظرة عمق نلقيها على التاريخ العريق للعراق وعاصمته بغداد التي كانت عاصمة للرشيد، تجعلنا نتساءل: ماذا سيسطِّر مؤرخو اليوم للأجيال القادمة عما استباحه هولاكو القرن الحادي والعشرين «تنظيم داعش الإرهابي» من حضارة العراق وتراثه التاريخي وحضارته العريقة تحت سمع العالم وبصره؟.