د. جاسر الحربش
المواطن السعودي يخاف من الموت في المستشفى أكثر من أن يموت في الشارع بسبب سائق متهور. علم الإحصاء يؤكد أن السعودي يتعرض لخطر الوفاة في حوادث المرور بأضعاف حصول ذلك له في المستشفى. منذ سنوات، على الأقل منذ عشرين سنة، يموت يومياً في المتوسط عشرون شخصاً في حوادث المرور، عدا مئات المصابين يومياً، ومنهم من يموت في الأيام التالية، ومن يتعافى جزئياً، ومن يبقى بعجز كامل. لو أحصينا مقابل ذلك عدد الوفيات بأمراض موسمية محدودة أو وبائية، بما في ذلك وفيات الحجاج والمعتمرين خلال نصف القرن الماضي في السعودية، فلن نحصل على كسر جزئي من أعداد الوفيات في حوادث المرور. إصابات وباء الكورونا في العام الماضي بلغت نحو تسعمائة شخص، توفي منهم قرابة أربعمائة وعشرين شخصاً، وشفي الباقون، بدون عاهات أو عجز مستمر. في الفترة الزمنية نفسها قضت حوادث المرور على قرابة تسعمائة شخص، هذا غير الإصابات والإعاقات.
بناءً على الإحصاءات الرسمية لوفيات المرور اليومية يتوقع أن يصل عددها هذا العام أكثر من سبعة آلاف شخص، ومعها أضعاف الجرحى والمعوقين. تناول قلماً وورقة وقارن النسب، وسوف تجد أن حوادث المرور هي الحاصد الأكبر للأرواح، والمسبب للإعاقات، وليست الأخطاء الطبية ولا الأمراض المستعصية، بما في ذلك الأمراض الخبيثة. وحوادث المرور هي أيضاً أكبر مسبب لوفيات الشباب بالذات.
الاستنتاج المنطقي هو وجود خلل ضخم جداً وفاضح ومعيب في تعامل السلطات المرورية في الشوارع السعودية، ولكن لا يتم التعامل معه بنفس التركيز في النقد والشكاوى التي يتم بها مع السلطات الصحية السعودية.
لا دفاع عن اهتراء وعدم كفاءة الأداء في الرعاية الصحية السعودية، فهي لن تجد من يدافع عنها إلا من داخلها، ومادح نفسه لا يصدق. الموضوع هنا لا يتعلق بسلطات المرور، أنظمتها، كفاءة قياداتها وأفرادها ومراكزها، وبضآلة مخرجاتها، بدليل الأرقام المريعة للوفيات والإصابات اليومية وما تخلفه من عجز وإرهاق مادي ومعنوي في محاولات إعادة التأهيل.
هيبة السلطات والأنظمة المرورية في الميدان متدنية، وأشدها هيبة هي آلة تصوير ساهر، وكفاءتها التنظيمية والوقائية كذلك، وحضورها إلى أماكن الحوادث، مقارنة بدول أقل كثيراً في الإمكانيات، يدعو للخجل والانزعاج. بالطبع حين يضطر المواطن لمراجعة أحد المراكز المرورية ترتفع الهيبة إلى مستويات رهيبة؛ لأن المواطن يكون في وضع المحتاج إلى التعامل السريع والاحترام، أمام سلطة عسكرية يختلف تعاملها حسب مزاج الفرد الذي يقف أمامه المواطن. في الدوائر المرورية يسود التعامل الصارم حسب الأنظمة، وفي الشارع تسود الفوضى؛ إذ يتحكم الشاب الأرعن والسائق الأجنبي المتهور بالتقاطعات والمنعطفات والمواقف.
بناءً على الفرق الواضح بين الشارع والمستشفى في أعداد الوفيات والإصابات وكمية ونوعية الفوضى، والخسائر البشرية والمادية في الإحصاءات السنوية، ترى من الذي يستحق الإصلاح الفوري والجذري والعاجل، أنظمة المرور أم الأنظمة الصحية؟
سبحان الله، أصبح الخوف من الموت بوباء كورونا أو الأخطاء الطبية أشد وأكبر من الخوف من الموت المتربص بنا في كل لحظة، عند كل تقاطع ومنعطف، بينما الوقائع تقول إن الموت في الشارع يشكل الاحتمال الأكبر من الموت على سرير في أحد المستشفيات، لكن يبدو أن الخوف من المجهول المحتمل أشد وطأة من المعلوم شبه المؤكد عند الشعوب التي لا تتعامل بالمنطق الإحصائي مع الحياة.