د. جاسر الحربش
موضوع هذا الحديث يدور حول الأهمية الوطنية المقدمة على ما سواها، في مجالات التربية والتعليم والرعاية الصحية، لنفس الفترة العمرية والمحددة بالاثنتي عشرة سنة الأولى. المفروض أن يكون الحديث عن الثلاث عشرة سنة الأولى في حياة الطفل، أي منذ خلقه الأول في بطن أمه، لأن متلازمة الصحة البدنية والعقلية تبدأ بالفعل في نفس الزمان والمكان.
متابعة صحة الأم الحامل والجنين منذ الأسابيع الأولى للحمل تعتبر من أهم إنجازات الطب الحديث وأبرز نجاحاته. ليست صدفة كرم أريحية أن تكاليفها جعلت ملزمة لشركات التأمين الصحي في الدول المتقدمة منذ بدايات القرن الماضي. على سبيل الأمثلة، اكتشاف سكر الحمل أو ارتفاع ضغط الدم أثناء الحمل، يساهم التعامل الطبي المناسب معهما بكفاءة عالية في خفض وفيات الأمهات والأجنة ونسبة التشوهات الجنينية، بل وأصبح من الممكن التدخل الجراحي مع بعضها بينما الجنين ما زال في الرحم لم يولد بعد.
لكن ما علاقة ذلك بالتربية والتعليم؟ العلاقة تتضح في إمكانية التخطيط المسبق للحصول على أجيال سليمة العقل والبدن قبل الولادة. بعد الولادة يأتي الاهتمام بالرضاعة الطبيعية وتغذية ونمو الطفل والتطعيمات الدورية، إلى آخر حقوق الأم والطفل على المجتمع. الهدف الحقيقي من ذلك (في النهاية) هو الحصول على أفضل الإنجازات المتوجبة على هذا الطفل، ذكرا وأنثى، عند وصوله إلى مرحلة التكليف بالمهمات الاجتماعية بعد اكتمال تعليمه وتدريبه في متوسط العقد الثالث من عمره. المجتمعات تستثمر في أطفالها، غريزيا وعاطفيا بالأساس، ولكن إنتاجيا عقلانيا وبدنيا بالإضافة إلى ذلك. أهم ما في سنوات العمر بالنسبة لرعاية الطفل هي تلك السنوات الاثنتا عشرة الأولى، التي هي حوالي ثلاث عشرة عندما نبدأ الحساب من بداية الحمل.
بالتوازي يجب أن يصبح الاهتمام بتعليم الطفل وتربيته، أي التعامل معه كإِنسان أعطاه الله قدرة التوسع المستقبلي في الإدراك والفهم والإحساس، يتماشى ويتناغم مع مسار الاهتمام بصحة الطفل البدنية.
فكرة روضة الأطفال لم تولد فقط من حاجة الأم العاملة إلى مستودع لأطفالها أثناء غيابها في ساعات العمل خارج المنزل. في الفكرة نواحٍ تربوية، اجتماعية وتثاقفية وتكافلية، تخدم الأطفال أولاً بأكثر مما تخدم الأمهات والآباء. بعد مرحلة الروضة يأتي التعليم الابتدائي. قد يكون الاعتقاد السائد محليا هو أن المدرسة الابتدائية تتسلم مواد خام فارغة من المحتوى لتطرقها وتشكلها، تعدلها أو تعوجها حسب متطلبات المناهج الرسمية التي تقررها الدولة، أو للدقة العلمية حسب المناهج التي تقررها إدارة المناهج بتكليف من الدولة. هذا الاعتقاد غير صحيح وقصير النظر، بل ويحتوي على مخاطر اجتماعية كبيرة، تظهر في الناتج النهائي بعد بلوغ الطفل مراحل الشباب والإحساس بالغبن ومصادرة الشخصية. التفكير في ملابسات هذه المرحلة التعليمية ومخرجاتها معقد لدرجة تتطلب التعامل من جهابذة متخصصين في علوم التربية والنشء، واختيارهم بالتأكيد أكبر مسؤوليات الدولة الوطنية على الإطلاق.
عودة إلى العناية الصحية بالطفل. لا أقول متفاخرا إنني تحدثت وكتبت مراراً وتكراراً في هذا الموضوع، بل منذرا ومحذرا من الدور شبه المهمل للرعاية الأولية في التطبيقات الصحية في هذا الوطن الذي لا وطن لنا سواه، ليس فيما يخص الطفل فقط وإنما لما يشمل كل الفئات العمرية. نحن نعاني من صعود جنوني في الأمراض المترتبة على إهمال الرعاية الصحية الأولية (التغذية السليمة، الرياضة، الحمل والرضاعة، ضبط السكر وضغط الدم وارتفاع الدهون وزيادة الوزن في مراحلها الأولى، إلى آخره). هذا التصاعد سببه الإهمال الواضح في التثقيف الصحي المتعامل بصرامة مع الواقع الاجتماعي وعدم التوسع المناسب (في الأموال والطواقم والتدريب وانتشار المراكز) في مؤسسات الرعاية الصحية الأولى. إحدى النتائج، بالإضافة إلى الإعاقات المبكرة والعجز عن العمل هو الضغط الهائل على مراكز الطب المعقد والمرهق التكاليف، مثل مراكز جراحات القلب والشرايين وزراعة الأعضاء ومراكز إعادة التأهيل.
لو قلنا إن الإهمال في الرعاية الصحية الأولية منذ الولادة يولد (مجازاً) وضعاً إرهابياً في المجال الصحي، فإنه يتوجب عندئذ أن نقول إن الإهمال في التعليم الأولي يولد (فعلياً) وضعاً إرهابيا في المجال الفكري والسياسي والاجتماعي. حدود المقال لا تسمح للأسف بالتوسع في الموضوع، لذلك أعود لأذكر بأن السنوات الاثنتي عشرة الأولى تحدد الناتج النهائي في كل شيء.