حقاً لقد رحل مليكنا الغالي عبد الله بن عبد العزيز من دنيانا الفانية إلى رحاب الرفيق الأعلى. لقد رحل مودَّعاً من الملايين بالدعاء له بالرحمة الواسعة، وأن يجزيه الله الجزاء الأوفى ويحلّه في جنة الخلد المقام الأسمى ًثواباً لما قدّم لدينه وشعبه ووطنه وللعالم العربي والإسلامي من خدمات جليلة وأعمال صالحة، مما سيخلّد ذكره ويبقى أثره. لقد خلّف وطناً آمناً مستقراً وصاعداً على سلم الرقيّ، ومُشيّداً على ثرى أرضه منجزات ثابتة الأصل متينة البناء؛ لقد كان حاكماً بعيد التظر استثمر خيرات بلاده في تمهيد طريق المستقبل.
شاهد ذلك افتتاح العديد من الجامعات التي طوّقت مناطق المملكة صغيرها وكبيرها كحزام لولبي - حتى بلغ عددها (28) جامعة حكومية، دون ذكر الجامعات الأهلية والمعاهد والكليات التقنية، ويدرس في هذه الصروح العلمية أكثر من ستمائة ألف طالب وطالبة. يضاف إلى هؤلاء ما يقرب من مائتي ألف طالب وطالبة ابتعثوا في إطار برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي للتحصيل من مناهل العلم في الدول المتقدمة وجلب ما تتميّز به تلك الدول من الخبرة والمعرفة إلى وطنهم. هؤلاء وأولئك سيكونون ذخيرة الوطن في بناء المستقبل.
اللحاق بركب التقدم العلمي كان هاجساً للملك عبد الله - رحمه الله - في نظرته البعيدة إلى المستقبل، فأنشأ جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في (ثول) لتنفيذ برامج الدراسات العليا والبحوث بمشاركة كفاءات علمية عالمية.. ولا يقل عن ذلك أهمية ما اعتمدته الدولة من أموال لدعم مراكز البحوث في الجامعات والجهات الحكومية، في إطار الخطة الوطنية للعلوم والتقنية والابتكار.. وبعد زيارة لمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية أمر بدعم مالي لبرنامج أبحاث (النانو).. وتشجيعاً للعلم والبحوث كرّم الملك عبد الله - رحمه الله - عدداً من العلماء والعالمات بمنحهم أوسمة استحقاق لإنجازاتهم العلمية.. غير أن نظرته البعيدة لم تغفل عن أولوية مستقبل التنمية.. فكان يدرك مخاطر الاعتماد الكلي على النفط، وكان ينقل عنه - رحمه الله - تلك العبارة ذات المغزى العميق عن البترول وهي: (الله يطوّل عمره)، ويعني بها عدم الإسراف في استهلاك النفط لكي يظل متوافراً في باطن الأرض أطول عُمر ممكن، وذلك باللجوء إلى مصادر أخرى للدخل وإنتاج الطاقة.. وهذا ما عملت - ولا تزال تعمل - عليه الدولة: من خلال إنشاء المدن الصناعية بالتعاون مع القطاع الخاص؛ تطوير منطقة الجلاميد لاستخراج المعادن؛ وإنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة - وغير ذلك من المشاريع.. ومن أمثلة حكمته وبعد نظره أن وجه بتخصيص جزءٍ كبير من فائض الإيرادات - في السنوات التي شهدت ارتفاع أسعار النفط - لبناء مرافق حيوية مثل (1400) مركز صحي، وأربع مدن طبية جديدة - مع ما هو موجود أو تحت التنفيذ - وعدة آلاف من المدارس، وشبكات النقل العام، والمطارات، وإنشاء الطرق الحديثة داخل وخارج المدن، والاستادات الرياضية، وتوسعات المسجد الحرام، ومباني الجامعات (جامعة العلوم والتقنية وجامعة نورة - مثلاً)، وتخصيص خمسمائة مليار ريال لتوفير مائتين وخمسين ألف وحدة سكنية، ودعم صناديق الإقراض.. كذلك لم يغب عن نظره البعيد وحكمته أولوية إصلاح وتحديث البنيان الاجتماعي متمثلاً في إنشاء هيئة مكافحة الفساد، وتطوير القضاء، وتطوير التعليم، وانفتاح الإعلام، والتخفيف من مشكلة البطالة من خلال برامج دعم السعودة (نظام نطاقات)، وبرنامج حافز، وبرنامج هدف.. وفازت المرأة السعودية بنصيب وافر من التقدير والاهتمام بتفعيل دورها في المجتمع وإتاحة فرص عمل أوسع مثل محلات المستلزمات النسائية ومصانع الأدية والمنسوجات ونحوها والترخيص بممارسة مهنة المحاماة، واستخراج البطاقة الشخصية. ومن أهم القرارات تعيين ثلاثين امرأة عضواتٍ بمجلس الشورى (20%).
وحيث إن السِّلْم الاجتماعي في أي بلد من البلدان يكوّن البيئة الصالحة لأن تُؤتي التنمية ثمارها، فإن الملك عبد الله - رحمه الله - أدرك خطر الإرهاب على السلم الاجتماعي.. لذلك كان سبّاقاً إلى التحذير من شرّه على مستوى العالم، واقترح إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب.. وقد أنشيء في الأمم المتحدة، لكنه لم يفعّل - مع أن الأحداث التي تلت ذلك أثبتت صواب الفكرة.. ومرّة أخرى حذر الملك في كلمة ألقاها أمام عدد من سفراء دول مختلفة في شوال 1435هـ من أنه إذا لم يُحارب الإرهاب وأُهمل فسوف يصل بعد أشهر إلى ديارهم.. وقد تحقق ما حذر منه الملك.. وعلى الرغم من انشغاله بتمهيد طريق المستقبل وتوفير الأمن والأمان لشعبه، فإن ذلك لم يصرفه عن الاهتمام بالشأن العربي؛ ومن أمثلة ذلك الدعم المالي والسياسي الدائم للشعب الفلسطيني، إصلاح ذات البين فيما يبدر من خلافات بين الدول العربية (آخر مثال المصالحة بين قطر ومصر)، دعم ثورة الشعب السوري مادياً وسياسياً، الوقوف الفوري بجانب حكومة عبد الفتاح السيسي في مصر؛ والمحور الإستراتيجي لهذا الاهتمام هو الحفاظ على وحدة الموقف العربي أمام المخاطر الإقليمية.
إلى جانب تميّز الملك عبد الله - رحمه الله - بالحكمة وبُعد النظر، فقد كان يتميّز على الجانب الشخصي بمسحة إنسانية غير مُتَكَلَّفة، بل هي سجية من سجاياه عرفت عنه قبل أن يكون ملكاً وبعد أن صار ملكاً، وزادت من حب الناس له.. من أمثلة ذلك زيارته لمنطقة جازان قادماً من رحلة خارجية عندما اجتاحها وباء حمى الوادي المتصدع، وتجواله بين وداخل بيوت حيّ أم سليم المتهالكة، ونمط استقباله للجمهور في قصره، ومشاركاته التفاعلية مع الجمهور في احتفالات العيد ومهرجان الجنادرية وغيرها.. ومن ذلك أيضاً دعم برنامج فصل التوائم الذي استفاد منه إلى جانب المواطنين توائم من بلاد أخرى، وبرنامج الأمان الأسري الذي يعالج قضايا الإساءة للأطفال.. من كل هذه الأمثلة - وهي غيض من فيض - نقول إنه رحل من دنيانا ليلقى وجه ربه الكريم، لكنه لم يرحل من قلوب شعبه.
أما سفينة الوطن - التي كان يقودها لتسير آمنة مطمئنة - فقد واصلت السير بأمان واطمئنان دون أن تتوقف لحظة واحدة؛ إذ استلم قيادتها الملك سلمان بن عبد العزيز الذي عُرف بحنكته القيادية وخبرته في الحكم والإدارة، واحتل قلوب الناس منذ كان أميراً لمنطقة الرياض قبل أكثر من خمسين سنة.. إنه خير خلف لخير سلف، وندعو الله أن يوفقه ويسدّد خطاه.