سنجد في كل منطقة من بلادنا الحبيبة شيئاً مختلفاً في مظاهر احتفال الأهالي بزواج بناتهم وأبنائهم. لكن السائد عند أغلبهم في وقتنا الراهن هو المبالغة في مظاهر الاحتفال - كلٌّ حسب قدرته - وبعضهم بما يفوق قدرته. وقد سبق أن أشرت في مقالين سابقين إلى أن
المبالغة في مجتمعنا عند أي مناسبة احتفاليه - بما فيها الاحتفال بالعرس - إرثٌ ثقافي؛ فهي ليست مقياساً واقعياً لعظمة المناسبة نفسها، بل وسيلة يعبّر بها المحتفلون أنفسهم عن حرصهم على تعظيم المناسبة أمام الحاضرين، ومن ثَمّ إشعار الأشخاص المحتفي بهم الذين أقيم الاحتفال من أجلهم بأهميتهم وعِظَم مقامهم. وهذا دون شك قصدٌ حسن. إلا أنه قد آن الأوان - في اعتقادي - لأن نلتفت لقيمة الشيء في ذاته وليس إبراز الهالة حوله، فإنَّ النظرة العقلانية للأمور تتلاءم مع روح العصر وطبيعته، حتى لو كان في الأمر حب وعاطفة - مثل الزواج - مما يعنى تبسيط إجراءات الاحتفال به. ولا حاجة هنا إلى القول إن البذخ في الأمور كافة - ومنها الأعراس - ليس من تعاليم دين الإسلام، بل هو مناقض لها كما هو معلوم عند كل مسلم. في الحقيقة نحتاج إلى الاحتفال بالزواج، فهو إلى جانب كونه يحقق عنصر الإشهار المطلوب شرعاً، فإنه أيضاً يعكس الفرح بمناسبة جميلة يتمّ فيها التقاء عاطفة الحب وتأسيس الشراكة في الحياة، كما أنه وسيلة لتنمية المودة والتعارف بين عائلتي العروسين، وفوق ذلك إسعاد العروسين بمشاركة المدعوّين لهما في الفرحة بعرسهما. وما دام الاحتفال يتضمن هذا كله، فما الحاجة لنظرة أكثر عقلانية؟ الجواب في غاية البساطة، وهو أن ذلك يتحقق بشكل أفضل في الاحتفال البسيط، كالاكتفاء بحفلٍ لعقد القران (الملكة) يحضره أقارب العروسين والدائرة الضيقة من المعارف والأصدقاء. أما ما يزيد على ذلك من مظاهر التكلّف والترف فلا يجلب أية قيمة إضافية، ولا سيما في حفل الرجال فإنه لا يخص العريس شيء منه. وإن أسعده الحظ قد يجد فرصة لالتقاط صورة فوتوغرافية مع أحب أقاربه أو أصدقائه؛ أما ما عدا ذلك فإنه يقضى معظم وقت الحفل في السلام على مدعوّين لا يعرف أكثرهم، وربما يشعر طوال الوقت بالتوتر بدلاً من الانشراح. وإذا كان عدد الحاضرين كبيراً تبدّد أقارب العروسين بينهم، وربما ينتهي الحفل دون أن يعرف بعضهم بعضا.
ولا جدال في أن طبع النساء في مناسبات الأعراس مختلف. فهنّ يحببن إظهار مشاعر الفرح والابتهاج، والعروس وأهلها يسعدهن أن ترى الحاضرات زينتها. ومع أن الأهل لا يأنفون من بذل المال والجهد في الإعداد لحفلات الزواج، بل يفعلون ذلك بأريحية وحماس؛ إلا أنهم يتحمّلون عبئاً وتكلفةً كبيرتين، وفيه إهدار لا لزوم له : مبالغ الاستئجار الباهظة (إن كان المكان مستأجراً)، والمشقة في البحث عن الموقع المناسب وحجز الموعد، وتكلفة الطعام المقدّم للضيوف وبطاقات الدعوة. كل ذلك يقابله أنه لا يحضر من المدعوّين إلّا ثلثاهم، ولا يجلس للعشاء إلّا الثلث الأخير. بل حتى إيصال الدعوات صار متعسّراً في المدن الكبيرة، واتجه الناس إلى إرسال الدعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يقلّل من القيمة الشخصية للدعوة أو لا يضمن الانتباه لها. ولو كان الإسراف والتكلّف في حفل الزواج هو ما يضمن نجاحه، لكان جديراً بالإشادة، ولكنه لا يضمن شيئاً.
يتبيّن من بعض الدراسات الاجتماعية أن 40 في المئة من حالات الطلاق تتم في السنة الأولى من الزواج. من أجل ذلك فإنه أجدى للمقبلين على الزواج أن يتحول همُّ العرس من التجهّد للاحتفال - على أهميته - إلى تشييد الأساس للحياة الزوجية. إن من المقبلين على الزواج شباب عاشوا مراهقتهم ومقتبل شبابهم في انعزال تام عن مجتمعهم الكبير؛ إِذْ كانوا يقضون معظم وقت فراغهم من الدراسة أو العمل مع مجموعات شللية، وتختلف اهتماماتهم كلّيّة عن اهتمامات أهلهم وأفراد مجتمعهم الذين أصلاً قد لا يستوعبون تلك الاهتمامات، لأنّها وليدة مفاهيم عصرية جديده لم يألفوها، فلم يتيسر لأبنائهم أن يمارسوها؛ وفي البيوت لم ينشأوا على المشاركة في الواجبات الأسرية، خاصة مع اعتماد الأسرة على الخادمة والسائق والعامل الأجنبي، فلم تعد هناك حاجة إليهم، والمدرسة أيضاً لم تفعل شيئاً - خارج ما يتلقّونه في الفصل ومن صفحات المقررات - لبناء جسر بينهم وبين المجتمع وتحضيرهم لتحمّل مسؤوليات الحياة.
محصّلة ذلك أنهم بعد الزواج المبنيّ على حاجة بيولوجية أو إلحاح من الوالدين يدلفون إلى حياة تتطلب منهم العيش مع رفيق واحد وليس مع شلّة، والقيام بمسؤوليات مباشرة للمنزل والساكنين فيه. هي أمور تواجهه من دون استعداد نفسي أو اجتماعي وهو في مرحلة غير مكتملة النضوج من العمر. النتيجة - وان كانت غير مرتبطة بحفل الزواج - لا تتناسب في بعض الحالات مع ما أُعطي للحفل من هالة. ولعل مما يزيد من فرص نجاح الزواج ويدخل المزيد من السرور استباق حفل الزواج بخطوات مؤثِّرة مثل:
- توعية الوالدين بأهمية ترك قرار الزواج، وأن الانتظار حتى سنّ 28 - 32 للابن، وسنّ 24 - 28 (أو قريباً من ذلك) قد يكون أنسب لظروف حياتنا العصرية.
- جعل الدورات التدريبية قبل الزواج إلزامية، وأن تكون مدعومة بمشاركة عملية في العناية بمنزل الوالدين وقضاء حوائج يومية.
- وضع فاصل زمني كافٍ بين الخطبة وعقد القران يتيح المزيد من التعارف والألفة بمشاركة العائلة.
- استمالة الشباب للمشاركة في الأنشطة الاجتماعية مع أفراد المجتمع، والعمل على قبول المجتمع لهم برحابة صدر وتفهّم لاهتماماتهم.
بالزواج يدخل الشاب والشابة في رابطة مقدسة، يُحكِم ربطها المودّة والتفاهم، وما حفل العرس إلا إيذانٌ بالدخول.