عبدالعزيز السماري
أحياناً نسمع بين الحين والآخر اتهامات لأفراد في المجتمع بأنهم ليبراليون، وهو ما يرفع التساؤل المشروع الأشهر هل يوجد إنسان ليبرالي كصفة مطلقة ؟، وهل يوجد إنسان بلا قيود، ويؤمن بالتحرر بلا حدود، والإجابة حسب وجهة نظري أنه يوجد لا إنسان خال من القيود، و لا يصح إطلاق صفة ليبرالي على الشخص، لأنه لا يوجد إنسان ليبرالي مطلق..!
ولكن توجد توجهات ليبرالية، مقابل ذهنية المحافظة في مختلف نواحي الحياة، فعلى سبيل المثال يوجد نظام اقتصادي ليبرالي، وقد يكون من مناصريه محافظون دينياً، مقابل الاقتصاد المقيد بمصالح المجتمع، وقد تدعمه الفئات الأقل محافظة، ويدخل في التوجهات الليبرالية مطالبة بعض دعاة الدين بالتخفيف من القيود الصارمة التي تحكمها الظنون والشكوك، في مقابل الذين يدعون لفرض المحافظة بشدة على الجميع، ومنها أيضاً المطالبة بفن وأدب متحرر من بعض القيود، وذلك ليكون بالفعل مرآة للمجتمع، مقابل الدعوات لأسلمة الفنون والشعر والأدب، ثم جعلها أدوات تخدم الأيدولوجيات الضيقة.
المفارقة أن تلك التوجهات قد نجدها في فقه الاختلاف بين التيارات الدينية في فهم الدين، فالجماعات السلفية المتشددة تؤمن بفرض قيود صارمة لحد الهوس على العقل والعمل في المجتمع، بينما يحاول علماء دين تقديم فهم إسلامي متحرر أو أكثر ليبرالية من الفهم السلفي المتشدد، ومع هذا لا يصح أن يُطلق على هؤلاء ليبراليون ؟، لأنهم يمثلون فهما إنسانيا أكثر تحرراً من آخر لمقاصد الدين.
خرجت الحركة الليبرالية في الغرب من صلب المسيحية، وأطلق عليها اللاهوت التحرري، هو مصطلح يغطي عادة الكثير من الحركات الدينية المسيحية التي ظهرت في أواخر القرن الثامن والتاسع عشر، وتطالب بتخفيف القيود الدينية على الحياة، وكلمة (الليبرالية) هناك لم تدل على حركة سياسية أو فكرية أو على مجموعة خاصة من العقائد، بل على قبول مبدأ حرية الجدل العملي والفكري في المسيحية والمرتبط بقبول الاختلاف والتعددية في الآراء، والتي تطورت لاحقاً لتصبح نواة لعصر التنوير في العالم.
في الزمن الحاضر وبعد ظهور حركات التطرف والعنف الديني في الشرق المسلم، ظهر علماء دين ومفكرون إسلاميون يدعون بشكل لافت إلى فهم إسلامي متحرر من الأحادية والاستبداد المطلق بالرأي والفتوى الدينية، والتي كانت من نتائجه ظهور داعش والقاعدة وغيرها من الحركات المتطرفة التي تؤمن بالعنف لفرض فهمها المتطرف للدين، ولو تم دراسة التحولات الفكرية بين رموز ودعاة جيل الصحوة في الثمانينات والزمن الراهن، لاتضحت طبيعة التحولات الليبرالية داخل المعسكر الدعوي.
فكثيراً من الأصوات التي كانت محافظة جداً، تطور فهمها الديني، وأصبحوا أقرب لدعاة الحقوق المدنية من دعاة لفرض الأمر الواقع بقوة السلاح، وهم بذلك يقدمون مثالاً على ما أود الوصول إليه في هذا المقال، ولعل الجانب المغفل في هذا الطرح تأثير التحولات المادية و التعليم والمكاسب الفردية، والتي بدورها تلعب دوراً هاماً في تخفيف معدلات التشدد، وقد تعلمنا من التاريخ أن الثورات المتطرفة تصبح أكثر ليبرالية وتسامحاً، و بالتأكيد أقل تشدداً عند دخول مرحلة رغد العيش وتكوين الثروات الطائلة.
المثال المحلي الأشهر هو علاقة الإسلاميين بالبنوك، والتي تحولت كثيراً بعد دخول علماء الدين إلى لجانها الاستشارية، والتي أظهرت بعد سنوات مرونة في وضع الحلول لمعالجة عزوف المواطنين عن التعامل مع البنوك الربوية بسبب التحريم الذي وصل إلى حد منع الجلوس في ظلالها، وقد أستطيع القول أنهم أي علماء الدين المنشغلون بإيجاد صيغة دينية للاقتصاد الليبرالي دخلوا معقل الليبرالية من أوسع أبوابها، لكنهم مع ذلك ليسوا ليبراليين، ولكنهم دعاة لتخفيف القيود عن المعاملات المالية من أجل منافع الناس.
الحراك الليبرالي المؤثر عادة يبدأ من داخل القلاع المحصنة بالمتاريس وأسنة الرماح، وتخدمه غالباً المصالح والمنافع، ومن خلال تلك الزاوية تبدأ حلقات إيجاد النصوص التي تشرع للتسامح، وتؤطر لشرعية الاختلاف، وتدفع نحو ثقافة الحقوق مقابل مرجعية القيود وذهنية التحريم، وتلك المفاهيم الليبرالية كانت بالفعل الانطلاقة في الغرب نحو التحرر من قيود الكنيسة المتشددة، وستكون بمثابة النواة للتحرر من الفهم الموحد والمتطرف للدين في عوالم المسلمين.
خلاصة القول أن تهمة « ليبرالي « لو تم إدراجها في أدبيات الجريمة و العقاب ستطول الكثير، وقد تصل إلى كل داعية قدم رؤية أقل تشدداً للفهم التقليدي المحافظ للدين، وسيقع فيها عدد غير قليل من علماء الدين ومفكريه المعاصرين، والسبب أنها أي الليبرالية منتج طبيعي في المجتمعات التي دخلت في أطوار جديدة من الرفاهية والتعليم العالي والوعي بحقوق الفرد في حياة أفضل، و بالتالي لا يمكن مقاضاتها إلا بمنع حق التفكير، ثم إعاة عقارب الزمن إلى أطوار التوحش والأمية، والله على ما أقول شهيد.