عبدالعزيز السماري
كان مشهد إحراق الطيار الأردني دليلاً على أن داعش أوصلت ما يُطلق عليه بالإسلام السياسي إلى ما قبل الحلقة الأخيرة، بعد أن أدخلت باختيارها عنق ذلك الفكر في حبل المشنقة، تماماً مثلما فعل أدولف هتلر عندما أوصل حركته المسيحية الفاشية إلى ذلك المصير بعد اتحاد القوى العالمية من أجل الخلاص منه، ثم مطاردة أفكاره الدينية المتطرفة في الغرب إلى الأبد.
رغم الاختلاف بين داعش وألمانيا النازية في الإمكانات المادية والتقنية إلا أنهما يشتركان في تقديم صورة دموية عن الدين، تمت صياغتها بعقول سياسية ملتوية، كما عبر عنها الصليب المعقوف في ألمانيا، وكما تعبر عنها سلوكيات دولة داعش الوحشية من أجل خدمة أهداف سياسية، لكن القاسم المشترك الأهم فيما بينهما هو تلك الرغبة الشديدة في الانتحار السياسي من خلال استثارة الرأي العام بطريقة غير معهودة، وتقديم تفسيرات دينية للحرق الجسدي والتصفية الجماعية لأعداء الحركة..
يعتبر العديد من المؤرخين الآخرين أنه ليس هناك مجال للشك في أن هتلر كان يحمل عداءً سياسياً للكنائس المسيحية التقليدية، وكان يطالب بتقديم صورة مغايرة عن المسيحية الأرذودوكسية، التي تقوم على مبدأ «إذا صفعك أحد على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر»، وكان يؤمن بأنه يجب الانتقام بصورة وحشية من أعداء الأمة إلى درجة التمثيل بهم كما حدث في صهاريج الإحراق الجماعي.
كان هتلر يحاول تقديم صورة عنصرية متطرفة عن الحضارة المسيحية الألمانية، ويعتقد أن المسيح كان ينتمي للجنس الآري؛ لأنه كان يحارب اليهود، وفي خطبه وتصريحاته تحدث هتلر عن نظرته للمسيحية باعتبارها دافعاً محورياً لمعاداته للسامية، قائلاً: «أنا كمسيحي لا أجد نفسي ملزماً بالسماح لغيري بخداعي، ولكنني أجد نفسي ملزماً بأن أحارب من أجل الحقيقة والعدالة»، حسب اعتقاده. وكانت النتيجة خروج دولة متوشحة بالغضب والدم.
كذلك يلاحظ المتابع لحركات القاعدة وداعش وغيرهما أنها تحاول تقديم قراءات دموية للدين الإسلامي، وإخراجه من كونه ديناً سماوياً للعالمين إلى أن يكون حركة ثورية فاشية تستخدم النار والساطور لترويع أعداء الحركة، وتعادي الفهم التقليدي للدين الحنيف، وتنقض التعاليم الدينية في أخلاقيات الحرب «لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً فانياً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه.. ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة».
العقل المتطرف في ألمانيا أفسد حق الشعب الألماني في التحرر من القوى التي تحد من انطلاقته، بعدما استخدم مفاهيم محرفة في الدين المسيحي، تم تقديمها في رمزية الصليب المعقوف، وذلك من أجل الوصول إلى النيل من الغجر واليهود المعادين لمصالح الأمة، وكان يستطيع أن يصل إلى أهدافه لو لم يقحم الدين في ثورته السياسية، ولو استمر في تعزيز اقتصاده واستخدام العقل السياسي المتزن من أجل تحقيق الأهداف السياسية بدون شعارات دينية ملوثة.
كذلك أفسد العقل المتطرف في داعش وغيرها الحراك الثوري الذي قام في العراق والشام ضد الظلم والعدوان، عندما قدم صورة غير صحيحة عن الدين الحنيف، وكان ينقصها شعار الهلال «المعقوف»، والشبيه بالفكر النازي الدموي، ولو قدم مطالبه السياسية ضد الاستبداد المتطرف في تلك البلاد في نماذج أكثر مدنية، ولم يقحم الدين في تبرير تمثيله بالآخرين، إما بالحرق أو الإعدام بالساطور، لربما وصل إلى أهدافه بدون تشويه لمقاصد الدين العظيم.
في نهاية الأمر لا تقتصر الجرائم السياسية في التاريخ على النازية وداعش، فالحروب العالمية والاستعمارية كانت حافلة بالجرائم الإنسانية، لكنها تميزت بالذكاء السياسي في البُعد عن استغلال الدين ثم تحريفه من أجل الأهداف السياسية، ولهذا أوصلت حركة داعش ظاهرة الإسلام السياسي بقصد أو بدون قصد إلى مرحلة كسر العظم والتصفية، مثلما فعل أدولف هتلر عندما استفز العالم بمحارقه وتصفيته الجسدية للمخالفين من خلال تقديم تبريرات دينية فاشية متطرفة لجرائمه الإنسانية..
كان الغائب الأكبر في الأسابيع الأخيرة علماء ورموز الحراك السياسي الإسلامي، في رد التفسيرات الدينية للتمثيل بالإحراق وقطع الأعناق ثم تصويرها وبثها للعالم، وهو ما يعني أن هدف المواجهة القادم قد يكون إقصاء حركات الإسلام السياسي بمختلف تياراتها، ثم عزلها عن العمل السياسي..