أجد في بعض الأحيان صعوبة في فهم بعض المصطلحات المتداولة، يأتي في مقدمتها مصطلح الصالحين في المجتمع، التي تعني على وجه التحديد رجال الدين، وهم بالمناسبة قلة في المجتمع، ويخضعون لمواصفات تختلف من حقبة إلى أخرى، وتحكمها الأحوال السياسية والاقتصادية، وفحوى الحرج من ذلك التقسيم أن المتلقي العام يفهم من تلك العبارة أن غيرهم يدخلون في فئة «غير الصالحين»، وهو ما يفتح الباب للدخول في متاهات التداخل المشبوه بين الدين النقي والكهنوتية.
الكهنوتية مفهوم دخيل على المجتمعات الإسلامية، وتنتقل عبر القرون من المجتمعات الغربية في قرونها المظلمة إلى المجتمعات المسلمة بعد نكوصها ودخولها إلى عصور الظلام، وينطلق من تصورات غير صحيحة عن دور رجال الدين في المجتمع، وفي ابتكار وسائل لإحكام السيطرة على المجتمع، وإخضاعه لأحكامهم المتشددة تحت شعار المحافظة على الدين..
تبدأ أولى مراحلها بخروج رجال للدين، يتصفون بالتشدد في أحكامه، وبتقديم صورة غير طبيعية عن الإنسان، سمتها التنزه من الأخطاء والذنوب والتعفف في الظاهر في البحث عن ملذات الحياة، ثم التطوع للقيام بمسؤوليات ظاهرها المحافظة على الأخلاق الدينية، وباطنها الغريزة الإنسانية، وعادة يحصلون مقابل ذلك على مكاسب كبيرة في المجتمعات المتأخرة، منها المكانة الخاصة والأبواب المفتوحة، وهو ما يجعلهم يستشيطون غضباً أن وجدوها يوماً ما مغلقة في وجوههم.
يعتمد نجاحهم في الوصول إلى مرحلة الطبقة الخاصة إلى عوامل منها مستويات الوعي والعلم في المجتمعات، وكلما كان المجتمع بدائياً، وتنتشر فيه الأمية المعرفية، يكون تأثيرهم أقوى، ويظهر في المقابل المعرفة والثقافة كخصمين لدودين لتلك التصورات غير الصحيحة للدين النقي، لذلك كثيراً ما تحدث تصادمات مدوية بينهما، كلما اهتزت المعادلة بين الطرفين، ولهذا يستغل الاتجاهان المتغيرات السياسية كثيراً للنيل من الآخر.
بعد دخول عصر الانفتاح، وانتشار ظواهر الإعلام الاجتماعي تأثرت تلك الطبقة بعدما تكشف للناس أنهم مجرد رجال يبحثون عن إشباع غرائزهم في التسلط إلا من رحم ربك، ولا يختلفون عن العامة، وقد أثبتت كثير من الوقائع صحة ذلك عند بعضهم، لكن ذلك لا يجب أن يعني التعميم، فهم مثل بقية المجتمع، فيهم الصالح وغير الصالح، ولا اختلاف حول ذلك، ولكن الاختلاف هو حول احتكار مصطلح الصلاح من أجل نيل مكاسب، وهو ما يخالف نواميس المجتمعات المنتجة.
من الأشياء الملفتة للنظر أن الإسلام نهى عن الطبقية الدينية، وذم التنطع في الدين، فيما نقله عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون»، يعني أنهم تلفوا وخسروا، والمتنطعون هم المتشددون في أمورهم الدينية والدنيوية، الذين إن نجحوا في الوصول إلى مرحلة التنطع بالدين والتظاهر بالتشدد، يُصابون بداء التسلط على الآخرين لحجة أنهم الصالحون دون غيرهم.
حديث (أكثر منافقي أمتي قراؤها) استوقفني كثيرا، وهو حديث صحيح، ويصح أن نستأنس به في محاولة فهم موقف الإسلام من الكهنوتية والتنطع في الدين، وجاء في سلسلة الألباني في الحديث الصحيح، والمفارقة أن بعض نجوم الصحوة المعاصرة من الوعاظ حاول إضعافه لمعارضته الصريحة لسلوكهم المنافي لتعاليم الدين، وهم الذين يقدمون أنفسهم بصورة ملفتة على أنهم وحدهم الحافظون للقرآن، و القابضون على دينهم، وهم قد يظهرون خلاف ما يبطنون، وقد كان المنافقون في المدينة عينة من هؤلاء، وكانوا يزايدون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدين، لكن الوحي أظهرهم على حقيقتهم.
لهذا السبب أبدي ممانعة شديدة في تقسيم المجتمع لصالحين وغير صالحين أو لملتزمين وغير ملتزمين، أو إلى رجال دين ورجال دنيا، وهو ما يتعارض مع صريح الدين، ويجعلنا ندفع الفهم الديني في اتجاه الفهم المحظور، الذي يجعل للمتنطع بالدين مكانة خاصة أو طبقة أشبه بسدنة المعابد، وهو ما يمس جوهر الدين النقي، ولنا أن نتساءل عن أسباب انتشار هده الظاهرة في المجتمع السعودي وانحسارها في المجتمعات الأخرى، وهل للبعد التاريخي والجغرافي عن مواطن الحضارة في الماضي كان السبب أم أنه تبعات متوقعة للتخلف المعرفي في شتى مظاهر الحياة.
خلاصة القول إن الصالح في المجتمعات المتحضرة هو الإنسان المنتج الذي يعمل، ويلتزم بالتشريعات والأنظمة، ولا يستخدم آليات الفساد الإداري والمالي في الكسب غير الشريف، وقبل ذلك أن يقدم صورة معتدلة عن الإيمان بالله -عز وجل-، لا تصل إلى إثارة الفتن والقلاقل الدينية، ونزع صفة الصلاح عن الآخرين، والله على ما أقول شهيد.