لا حاجة لتأكيد الرأي الذي يقول إن من يقرّر الأولويات الاجتماعية حول شؤون المرآة هي المرأة نفسها، وأننا نحن الرجال علينا أن نتخلص من توهّمنا بحق الوصاية على المرأة، بعد أن صارت تتعلم مثل الرجال (أليس العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة؟
وإذا كان مقصوداً بالعلم في هذا القول المأثور العلم بأمور الدين، فإن المبدأ ثابت وهو التساوي في واجب التعلم)، وبعد أن صار بإمكان المرأة أن تعمل وتكسب رزقها وتشارك في الإنفاق على الأسرة، وبعد أن صارت تنتقل بالسيارة بمفردها (مع سائق خاص!) وتتسوق وحدها في الأسواق وتراجع المستشفيات وحدها -وهي أماكن ليست خاصة بالنساء. هذه التطورات التي أبرزت دور المرأة الاجتماعي والاقتصادي وعمّقت شعور الاعتداد بشخصيتها والوعي بذاتها لم تمكّنها مع ذلك من نيل حقوقها كافة. وعندما نبحث عن السبب في توقف مسيرتها نرى نقاط تفتيش من الوصاية الذكورية. فهل الوصاية حق شرعي يخوّل للرجل أن يبخس المرأة حقها؟ لا شيء يدلّ على ذلك. بل إن فقهاءنا وعلماءنا الشرعيين -ومن بينهم نساء فاضلات- يؤكدون أن دين الإسلام قد كرّم المرأة وحفظ لها حقوقها. وحيث أن هذا صحيح وفى النصوص الشرعية ثابت، فلماذا لا يزال بعض المثقفين والمثقفات -لا سيّما مَن لديهم ثقافة شرعية عالية- يؤكد على أولوية حقوق المرأة الشرعية المهضومة واعتبار ما عداها كقيادة السيارة والابتعاث وبطاقة المرأة والسينما قضايا هامشية. لماذا إذن تظل تلك الأولويات -مثل حقوق المطلقات وعضل المرأة...إلخ- معلقة، إما مسكوتاً عنها أو أنها تدور في أروقة المحاكم أو أن جمعية حقوق الإنسان تضطر أحياناً للتدخل في بعضها. فنسمع كثيراً عن دعاوى رُفعت للمحاكم من مطلقات حرمهنّ الأزواج من حق النفقة أو الحضانة، ويصدر الحكم فيماطل الزوج. ونسمع قصصاً عن تزويج قاصرات لكبارٍ السن مقابل مهور مرتفعة، وعن عضل آباءٍ لبناتهم للاستحواذ على رواتبهن، وعن تصرف الإخوة الذكور في إرث أخواتهم. وفى استبيان أجرته صحيفة الرياض في مايو 2013 حول أهم مشكلات المرأة على عيّنة من (1718) امرأة كانت النسبة الأعلى(41%) المعاناة من اضطهاد الزوج ، يليها (15%) عدم تقدير المجتمع. هذه الأمثلة القليلة كافية للقول بأن نكران حقوق المرأة مصدره ثقافة اجتماعية متراكمة (أو متوارثة) تمنح الرجل سلطة الهيمنة على حقوق المرأة وشخصيتها، وتعطي الرجل ضمناً حق الوصاية الذي يظلمها ويزيّن لبعض الرجال أن يبخسوها حقها، بدلاً من واجب القوامة المنصوص عليه في القرآن الكريم الذي ينصفها، والذي يلزم الرجل ضمناً بالقيام على شؤونها وتأدية حقوقها. لا شك أن الأمثلة السابقة -وغيرها- ليست ظاهرة طافحة بل هي حالات، ولكنها غير نادرة، وعصيّة في أحياكثيرة على الحلّ بدون تدخّل فاصل من القضاء، لأنها قضايا تعكس مواقف ومصالح شخصية. وقد يصدر حكم للقاضي عادل ومنصف ولكن (ولي أمر المرأة) يماطل في تنفيذه، أو قد يصدر القاضي حكماً لا ينصف الطرف النسويّ -مثل تقدير حق النفقة بمبلغ ضئيل مع قدرة الزوج على دفع أكثر من ذلك. وعضل المرأة قد لا يصل إلى القاضي إلا في النزر اليسير من الحالات، بسبب حساسية ولاية الأب أو ولي أمر غيره. حقوق المرأة في مثل هذه الحالات ثابتة ومكفولة شرعاً، لذا فالمشكلة في أدائها وليس في وجودها. وعلى النقيض من ذلك حقوق مدنية أخرى -مثل قيادة السيارة وأشباهها- فليس هناك مانعٌ شرعي لها، ولكن إثباتها كحق معترف به لم يحصل حتى الآن، بسبب شبهات أو ذرائع مبالغ فيها أو متوهمة يمكن تجنبها بإجراءات تنظيمية ورقابية فعالة ومتعددة، منها نظام مكافحة التحرش الذى عارضه المعارضون والمعارضات خوفاً من شرعنته للاختلاط، مع أن الاختلاط حاصل فعلاً في المستشفيات مثلاً والأسواق والأماكن العامة، وأن الهدف منه هو منع حدوث ما يسبب الخوف. وربما يصل المرء -عند مقارنة سلبيات إقرار تلك الحقوق وإيجابياته لصالح الفرد والمجتمع- إلى أن السلبيات يمكن إيجاد وسائل لقهرها، ولكن من الصعب إيجاد بدائل للإيجابيات. وفى ضوء تقدير الإيجابيات والسلبيات الذي يفترض فيه أن لا يكون خاضعاً لآراء مرتجلة أو مائلاً نحو هوى، وإنما هو حاصل موازنة دقيقة تستند إلى قواعد شرعية وإلى منهج علمي، فإن ولاة الأمر يتخذون القرار الملائم الذي سوف يتقبله مجتمعنا، لأنه يثق بأنهم يفعلون ما تمليه المصلحة العامة (وحيثما تكون المصلحة فثمَّ شرع الله - كما ينقل عن ابن القيم رحمه الله). وفي تاريخنا شواهد من قرارات استراتيجية رأى فيها ولاة الأمر من المصلحة ما لم يره المتحفظون عليها إلا بعد حين -أي بعد التطبيق- مثل تعليم البنات وتحرير الرق وإدخال التلفزيون وتشجيع عمل المرأة وتأنيث محلات المستلزمات النسائية. وفيما يخص المرأة من هذه القرارات صار التعلّم والتعليم حقاً من حقوقها، وكذلك العمل، لا يجادل فيهما أحد. ولأن هذه الحقوق تمارس خارج المنزل، ومثلها حق مراجعة المحاكم بشأن النفقة أو الحضانة أو الميراث أو الإيذاء وظلم الزوج، وحق طلب العلاج في المرافق الصحية، وحق التسوق؛ فإن من حقها أيضاً توفير الوسائل التي تمكّنها من ممارسة هذه الحقوق، ومنها وسيلة النقل التي تستخدمها حسب الأنسب لها، دون االتزام المطلق بسائق أجنبي يخدم العائلة كلها، أو محرم غير متاحٍ دائماً. وفي هذا السياق تعتبر قيادة المرأة للسيارة نموذجاً لقضية تكتسب أولويتها من علاقتها بأولويات أخرى، فلا ينبغي تجاهلها أو استبعادها بحجة وجود قضايا أولى منها، لأن الترتيب لقضية ما ليس له أي معنى إذا كانت لا تحجب النظر إلى قضايا أخرى، ومن ثَمّ لا تنافسها على قدرٍ محدّد من الوقت أو المال أو على جهة مختصة واحدة - كما في برنامج عمل محدّد أو بنود ميزانية أو مواعيد مسؤول بعينه. وما يظنه البعض قضايا هامشية فإنه يجمعها مع القضايا (غير الهامشية) أولوية واحدة، هي احترام حقوق المرأة ووضعها في المجتمع في ضوء السياق الزمني الذي تعيش فيه والوعي الذي تملكه وضرورة تعديل المفهوم الذي لا يريد أن يتعايش مع تطور الوعي وظروف الحياة المستجدة، بل يتسمّر في موقف واحد، هو أن المرأة لا تؤمَن على نفسها وتحتاج إلى وصاية!