أحسنت كثيراً وزارة الثقافة والإعلام حين كرمت رواداً في «الخط العربي» ضمن التكريم السنوي في معرض الرياض الدولي للكتاب 2014، مع شكري الجزيل للجنة الثقافية للمعرض التي طرحت فكرة تكريم رواد الخط العربي، وقد سعدت بكوني أحد أعضائها.
في مشهدنا الثقافي والاجتماعي والتنموي، هنالك العديد من برامج التكريم لبعض الشخصيات والأعمال المميزة. و»فعل التكريم» يجب أن يتأسس على فلسفة معمقة تمكِّننا من تحقيق مكاسب كبيرة وبمنظور إستراتيجي. والتكريم الفاعل في أي سياق - في نظري - هو ذلك الذي يشتغل في مسارين متكاملين:
- تكريم الرواد في مجال محدد لإزجاء الشكر لهم وتخليد أسمائهم وأعمالهم الفذة. وعليه، فإن هذا المسار يُعنى بتكريم المنجز المتحقق في الماضي.
- تكريس الفعل الثقافي والاجتماعي والتنموي الذي بدأ بالاضمحلال والتلاشي والضعف، وذلك عبر تكريم رواده والتنويه بالمشتغلين به وإبرازهم وإعطائهم ما يستحقونه. ومن هنا فهذا المسار يعضد السلوك المستقبلي عبر تشجيع الأجيال الجديدة على الولوج إلى عالم هذه الصناعة الثقافية أو تلك.
تماماً كما تعاني اللغة العربية، تعاني صناعة الخط العربي الكثير من المشكلات وتواجه صعوبات بالغة وتحديات كبيرة، وواقعنا المعيش يجعلني أقول إنها باتت من الصناعات التي تتعرض لعوامل الاضمحلال والضعف -للأسف الشديد- من جراء تهميشنا الكبير للخط العربي وللمبدعين فيه، وأنا أتحدث عن تراكم سنوات طويلة من التهميش وضعف الدعم بكل أصنافه، الأمر الذي جعل هذه الصناعة محصورة في أعداد تقل من المبدعين والمختصين، وهنا تكمن الخطورة، فنحن نعرِّض صناعة ثقافية لخطر الاضمحلال والضمور. ولذا فإني أشكر وزارة الثقافة والإعلام حين تبنت فكرة تكريم بعض الرواد في صناعة الخط العربي، وهو تكريم معنوي لجنس المبدعين في هذه الصناعة وليس فقط للأفراد الذين وقع عليهم الاختيار، فكل مبدع يعبِّر عن الصناعة التي يشتغل بها. إذن، هو تكريم لصناعة الخط العربي ورسالة بأننا سنهتم بكم من الآن فصاعداً. نعم هذا ما يجب أن يكون عليه القرار الإستراتيجي في كل المؤسسات المعنية بالخط العربي.
الصناعات المرتبطة باللغة يجب أن تكون مربوطة بأهل اللغة أنفسهم، فهم الأقدر عليها والأكثر تحكماً في رسم مسارات تطورها والانتفاع منها، ولذا فإنني أبادر بالقول إنه لا يليق بنا إطلاقاً أن يكون نمو صناعة الخط العربي وتطورها والعناية بها في دول غير عربية كتركيا وإيران، صحيح أننا نفرح كثيراً باشتغالهم بهذه الصناعة، فاللغة العربية هي لغتهم الحضارية ولذا فهم معنيون بها، ولكن العرب يجب أن يكونوا الأكثر تميزاً في هذا الشأن، وبالذات في المملكة العربية السعودية، لثقلها الحضاري العربي الإسلامي، ولأنها تمتلك الموارد الضخمة القادرة على إنعاش هذه الصناعة بشكل كبير وبمنظور إستراتيجي.
أحسب أننا بحاجة إلى خطة إستراتيجية لصناعة الخط العربي، على أن تكون هذه الخطة مبنية على أسس معمقة، تفلح في إعادة استنبات هذا الفن باعتباره فناً أصيلاً في مجتمعنا العربي، فهو ضمن المؤشرات التي تعكس مستويات تحضرنا عبر عنايتنا بلغتنا القومية الدينية الحضارية والاهتمام بها وصونها ونسجها في منظومة الفنون والإبداع والجمال في حياتنا المعاصرة بمختلف الأشكال والقوالب؛ بالإضافة إلى جعل هذه الصناعة رافداً من روافد بناء مقومات الاقتصاد المعرفي. هنالك مسارات عديدة يمكننا التفكير فيها من أجل تحقيق هذين الهدفين الكبيرين، ولعلي أشير إلى جملة من الأفكار التي قد تكون مفيدة في هذا السياق، مع التركيز على الفضاء الاقتصادي بحكم أنه موضوعنا في هذا المقال. يمكننا القيام بالعديد من الخطوات العملية، ومنها:
1. إقامة ندوات متخصصة واستكتاب بعض المتخصصين في موضوعات محددة كتعليم الخط العربي وإعداد الخطاطين وتطويرهم كماً ونوعاً، وارتباط الخط العربي بمسألة تنويع الاقتصاد الوطني، ومن ذلك تعضيد مسارات الاقتصاد المعرفي على وجه التركيز. ولتنظيم مثل هذه الندوات، يمكن الإفادة من الجمعيات المتخصصة في الخط العربي والمتخصصين من الأكاديميين وغيرهم.
2. إقامة جلسات عصف ذهني لتوليد بعض الأفكار المبتكرة في مجال تعضيد صناعة الخط العربي في المسارات كافة، ومنها ما يتعلق بالاقتصاد المعرفي، على أن يشارك فيها مجموعة من الشباب المبدعين والمشتغلين في التقنية والبرمجة والتطبيقات الحاسوبية في الأجهزة الذكية والأعمال الريادية ونحو ذلك. وهذه الجلسات ستكون مفيدة للخروج عن النسق التقليدي في التفكير، شريطة حسن الاستعداد لها وجودة إدارتها، فالعصف الذهني الفاعل يحتاج إلى إدارة متمكِّنة، عارفة بالشروط والمقومات التي يجب توافرها من أجل توليد أكبر قدر ممكن من الأفكار مع استفزاز الخيال ليحلق بعيداً في فضاءات الفكر الخلاَّق.
3. عقد ورش عمل بين المتخصصين في الخط العربي مع وزارة التربية والتعليم من أجل مناقشة أوضاع الخط العربي في المناهج الدراسية، فنحن نشهد انكماشاً شديداً في حصص الخط العربي والمناشط اللاصفية الداعمة، الأمر الذي قلَّل أعداد المشتغلين بها، بل نشهد جهلاً مريعاً في أنواع الخط العربي لدى أجيالنا الجديدة، ولعل الأمير الوزير خالد الفيصل يولي هذه المسألة عنايته الشخصية، فهي تستحق بلا شك. وهنالك حاجة لعقد ورش عمل أخرى مع وزارة التعليم العالي لبحث مسألة تطوير تدريس الخط العربي في بعض الجامعات السعودية.
4. عقد ورش عمل بين المتخصصين في الخط العربي مع بقية الأطراف ذات الصلة بمسألة الاقتصاد المعرفي كوزارة التجارة والغرف التجارية الصناعية ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية والجامعات التي تتضمن حاضنات للأفكار الرائدة والشركات المتخصصة في ريادة الأعمال وبالذات في مجال المعرفة والتقنية. والهدف من هذه الورش بلورة أفكار وخطط لتدعيم مسألة تحويل الخط العربي إلى صناعة تدعم الاقتصاد التقليدي عبر منتجات متنوعة، إضافة إلى تطوير هذه الصناعة بما يجعلها داعمة للاقتصاد المعرفي أيضاً.
5. بعد ذلك يمكن عقد اجتماعات مع وزارة الاقتصاد والتخطيط لطرح التصورات من أجل استيعابها في الخطط التنموية وبرامج الدعم من قبل وزارة المالية.
عبر السنوات، تراكمت لدي قناعة بأن الكثير من الأفكار الجيدة لدينا لا تفعَّل لعدم وجود جهة رسمية ترعى مثل هذه الأفكار وتتبناها، ولذلك فإنني أرجو ألا تضيع هذه الفكرة بسبب ذلك. في رأيي، إنه يمكن لوزارة التربية والتعليم أن تقوم بمهمة التنسيق بين الجهات ذات الصلة عبر إطلاق مبادرة وطنية في هذا المجال، وبخاصة أن الوزارة تمتلك إمكانيات هائلة، بشرية ومالية فضلاً عن المرافق والخبرات المتنوعة، كما أن لها جهوداً مشكورة في صناعة الخط العربي في العقود الماضية عبر برامج ومسارات عديدة، فهل نشهد تأسيس مثل هذه المبادرة الوطنية في «الخط العربي»؟