** ساد الحوارُ زمنًا خصبًا حول العلاقةِ التثاقفيةِ بين الكاتب والقارئِ ومن يتغيرُ منهما لتفعيل الوصل بينهما؟ أهو الكاتبُ كي يفهمه القارئ أم يتخلى القارئُ عن استرخائه ليفهمَ الكاتب؟ ومن يبدلُ في نهجه؟ ومن يؤثرُ في مَن؟ وباتت معزوفة «الجمهورعاوز كده» قائدةَ القاعدةِ العامة التي تحركُ لا المخرجَ والممثلين فحسب، بل الكتبةَ والمثقفين؛ فالأهمُّ من الطرحِ ما يريدُه الناسُ وما يستطيعون تناوله ومن ثم تداوله، وانتبذ الجادون مكانًا قصيًّا، كما تنازل رموزٌ عن مكانتهم كي يجدوا لهم موقعًا تحت وهجِ الأرقامِ وإن وطئتهم الأقدام.
** الزمنُ اختلف، ومن يفترضُ استنساخَ زمنٍ من آخرَ فقد ركبَ وعرًا وخالف سنةً إلهيةً تقضي بالتجددِ الكونيِّ والتجديدِ الإنسانيِّ اللذَين يحكمانِ مسيرة الحياةِ والأحياء ليبقى الافتراض الآخرُ حول نسبية النزولِ ومقدار التنازلِ وأين سيجد الجيلُ نفسه حين يتكئُ على إعادةِ إنتاجِ الذات الموسومةِ بالتعجلِ والتبدلِ والامتلاءِ الفارغ؟!
** نثقُ أن فترة التكوين العلميِّ والسلوكيِّ هي المرحلة المبكرةُ في حياة الطفلِ والصبيِّ بما يراه من نماذجَ وما يتعلّمه من مناهج وما يقرُّ في ذهنه من مداخل ومخارج يسكنُها التأملُ والقابليةُ والدهشة والإيمانُ بالتراتبيةِ المعرفيةِ والسعيُ الجادُّ نحو التحصينِ الذاتيِّ والتحصيل الخارجيِّ والقدرةُ على المواجهةِ بالرقمِ والحقيقةِ والأثر.
** يعشى الجيل الناشئُ بالتقليدِ والمسايرةِ والركونِ إلى إمكاناته المنفصلةِ عن التأصيل والمعتمدةِ على الترديد ويضرُّه كما يضيرُه ضآلةُ آليات التوثيق والتدقيق وغيابُ المرجعيةِ الفكريةِ واستسهالُ الفتوى خارج اختصاصه، وربما وجدوا في الكبار قدوةً ممن لهم رؤيةٌ حول كل القضايا متجاوزين استطاعتَهم ومشرعين الأبوابَ للقولِ ولو التبس بالتقول.
**ولو شئنا نماذجَ على هذا السلوكِ الثقافيِّ المستجدِّ فإن كبار الأمس»القريب» أو أغلبَهم قد التزموا بالحدودِ المفترضةِ لعلمهم أو معلوماتهم الشرعية والتأريخيةِ واللغويةِ والأدبيةِ، وحين يتيحُ لهم تأهيلُهم شموليةً معرفيةً فإنهم لا يتخلون عن مظانِّ قوتهم، في حين كان شبابُ الأمس أو معظمُهم ملتزمين بالأخذ عن شيوخهم الذين يؤمنون بهم والانطلاقِ - بعد الاستيعاب جثوًا على رغبة التعلّم - لمحاكمتِهم والقربِ منهم أو النأي عنهم وإضافة مسارٍ ثقافيٍّ جديد، في حين بات شباب اليوم أو معظمُهم دون أساتيذ والأساتيذُ من غير مظلاتٍ تخصصية؛ فكثر الفقهاءُ ولا فقه، وامتلأنا بالإفاضة دون إضافة، وتحقق الانتشارُ من غير دِثار.
** من المهم أن نمنحَ التكوينَ المعرفيَّ رعايةً ضافيةً في وسائطنا التعليمية والإعلاميةِ بتعويد الطفلِ على التفكيرِ والإيجابيةِ واحترامِ القيمِ والأخذِ عن القممِ والصمتِ التأمليِّ وإتقان مهارات الأحكامِ الموضوعيةِ دون السير في العتمة أو وسط الضجيج، ولو استعدنا أسبابَ التميز لوجدنا ضالتها في عمقِ التكوين ومتانته ووجود بواعثَ تحركُه نحو الاتجاهاتِ المضيئة بالحق، وما الظنُّ أن الغارقين في الضحالة سيتخطون شاطئّهم.
** العمقُ سكينة.