** من يعشقُ الهدوءَ لا يطيبُ له الضجيجُ الإعلاميُّ المملوءُ لغوًا المتكئُ على اللِّجاجِ والجِدالِ وافتعالِ الإثارةِ فيحسّ المتابعُ «رائيًا أو قارئًا» أنه يلهثً في ساحةِ سباقٍ لا فرسانَ فيها ولا أحصنة ولا يطالُه غيرُ غبارِ الراكضين.
** من يودُّ الشهرةَ لن يلتفتَ إلى عالِمٍ فيفتشَ في سيرته،ولن يبحث عن أو في كتابٍ ليناقشَه، ولن يُرهق ذهنه بلقاءِ مخترعٍ أو طبيبٍ أو باحثٍ أو ذي نظريةٍ استشرافيةٍ لواقعٍ وما يُتوقع؛ فالأهمُّ من الشخص أو النص «الفرقعاتُ» التي يحدثُها البريقُ والزعيق، ومن يستضيفُ أولاءِ فإنما يختارُ منهم من يصنعون خبرًا تتناقلُه الشاشات.
** اختفت(أو كادت) عناوينُ الإثارة من صِحافتنا فعادت من بوابة العالم الفضائيِّ «المرئيِّ والرقميِّ» فاستهلكت الوقتَ والجُهدَ والمشاعرَ واختطفت الجديَّة والجادِّين مسايرةً أو متاجرةً أو تماهيا ؛ فالتثاؤب يُعدي المستيقظين.
** لو قورنَ رموزُ اليوم برموز الأمس لما قلُّوا تميزًا لكنهم تضاءلوا شأنا، ولو قُرئت تآليفُ اليوم لبدت «كشكولاتٍ» أو «كبسولاتٍ» يجدُ فيها المبتدئُ ما يلائمُ مرحلته، ومن يراقبُ المسيرةَ الثقافيةَ فسيرى أساتيذَ دون طلبة ، وقديمًا نعى مَن سبق على مَن لحِق؛ فكأنها تراتبيةٌ تنازليةٌ قدرُنا أن نحياها مشاعرَ دون أن تتجسَّدَ مظاهر.
** التفتنا يومًا إلى صراخِ المتحاورين فأصمَّ آذاننا وآذى أذهاننا وصار الأكثرون ينأون عنهم بعدما كشفوا « قبضّ الريحِ « من جدلياتهم وربما أسِفوا على أيامٍ ولياليَ أمضاها معظمهم مشدودين إلى سجالات مذهبية ومؤدلجةٍ ومسيسةٍ ظاهرُها البحثُ عن الحقيقة وناتجُها مزيد من الفرقة وكثيرٌ من التسطيح.
** تضاءل النشاطُ المنبريُّ «الذي كان مشهودًا فصار محدودًا في حاضريه ضعيفًا في محاضريه وهو ما صرف الجمهورَ نحو صخبِ الشاشات،ولو تسنى لدارسٍ أن يرصدَ مظاهر الأمراض العضوية والنفسيةِ في المجتمع بعد ثورة التقنية فسينبئُنا إن كان لهذه الوسائط دورٌ في زيادةِ التوتر وشيوعِ بعض الأمراض كما يظنُّ الجمهرة.
** لا أحد يستطيع قفلَ بابه أو غلق نوافذه في زمنٍ معلوماتيٍّ» مطير»؛ فالشاشاتُ ستحمل إليك ما ظننتَ أنك أقمتَ له سدودًا أو افترضتَ معه حدودًا،ولكن الاستفهامَ المهمَّ : لم اللجوءُ إلى شاشاتِ الضجيج في وقتٍ تتأتى فيه قيمٌ معرفيةٌ هادئةٌ مهادنةٌ تُضيءُ المسافةَ بين العالِم والمتعلم فيدنوان من بعضِهما ويضيفان إلى أدوارهما.
** داخل الاتجاهات» المتعاكسة» يتوارى التأصيلُ والتحصيلُ وتحِلُّ إشكالاتُ الخطاب الوقتيِّ المرتبطِ بظرفٍ متغيرٍ يُستثار من أجله الكُتَّاب كما القراء ، والمتبوعون كما الأتباع، ويكفي أن يطلق أحدهم تغريدةً أو يضعَ وسمًا أو يفكر خارج الصندوق حتى تُستنزفَ الجهودُ في الردودِ الانفعاليةِ والافتعاليةِ المتجهةِ نحو الأصل والفصل والنوايا، وسينشأُ جيلٌ لا تعلو سماؤُه ولا تتطهرُ غبراؤُه ولا تصفو أجواؤُه، ولن يجدَ مرتكزُا ثقافيًّا يقيه الضحالةَ والضآلة ويرتفعُ به عن الأنفاقِ والشِّقاق.
** التأصيل يتيه في التفاصيل.