** أوغل محمد شكري في تدنيسِ نفسه حين نشر «الخبز الحافي» مثلما أوغل عبدالرحمن بدوي إذ قدسها في «سيرة حياتي»، ومضى الرجلان إلى بارئِهما مصحوبَين بما في صدورهما لا بما خطته سطورُهما.
** هو حديثُ الذاكرةِ لا حقيقةُ الذكر، وهو رأيُ الأنا في الأنا؛ لا يُتوقعُ أن تُنصفَ أو تنتصف؛ فإن اعتزَّت اعتدَّت وإن تواضعت اتَّضعت، ويبقى أمام معادلةٍ عسيرةٍ من يفكر بكتابةِ سيرته كما هي لا كما يريدُ أن يراه الناس.
** تحتاجُ كتابةُ السيرة مثلما تلقيها إلى ربطِها بمحيطها العائليِّ وبيئتِها الاجتماعية؛ فما يُستقبلُ في مكانٍ قد لا يُستقبل في سواه، وقلةٌ من يقفزون فوق ثوابتِ ناسهم بينما الكثرةُ تراعي العُرفَ ولا تحترمُ المعترِفِين.
** كثيرون يودون أن يكتبوا سيرَهم لكنهم يهابون صدقَها مثلما تأبى صمتَهم؛ فإما أن تحكي السيرةُ موجبًا وسالبًا وإلا خرجت مكملةً منظوماتِ المديح التي لم تعد تعني غيرَ الواهبِ والناهب؛ فذا يرتزق وذاك يختال.
** ويجيءُ الحديث عن الآخرين في تضاعيف السيرة؛ فأين حقُّ الساردِ كي يقول وما حقوق القول والمقول؛ أفيجب استئذانُهم قبلاً؟ وماذا إذا كانوا قد تواروا عن المشهد العام بعزلةٍ أو زهدٍ أو رحيل؟ ومن يشهد لمن؟ وكيف يتأتى التوثقُ والتحقق؟
** والبعد الثالثُ هنا: ما هي المسافةُ الخاصةُ المتاحة والمباحة كي تنتظمَها السيرة؟ وما آثارُها على السارد نفسِه وأسرته ومن تضمُّهم حكاياتُه؟ وهل يدخل هذا - لمن تعنيه القيمُ الشرعيةُ- في المنهيِّ عنه من المجاهرةِ أوالرياء؟
** يتسامى الفردُ حينًا فيعيشُ لحظةَ صدقٍ تدفعُه إلى التجردِ من عشقِ نفسه، ولكنه لا يتوغل داخل الذاتية المعتمةِ في سيرته، ولم يتوارَ الوزيرُ الأول الشيخ عبدالله السليمان - وفق توثيق الأستاذ محمد القشعمي في كتابه عن وكلاء الملك عبدالعزيز ومعتمديه في الخارج - أن يكتب بقلمه عن انتمائه إلى أسرةٍ فقيرةِ الحال متوسطةِ النسب وعن عمله «صبيًّا» عند الشيخ عبدالله الفوزان في الهند وعن الدائنين الذين لاحقوه والحظوظِ التي خدمته، وقرأنا سواه وهو يُقدمُ شجرةَ عائلته وعصاميةَ كفاحه وتفرد إنجازاته، و»ابن سليمان» ممن يستحق أن يُدرسَ وتُدرَّس سيرته في زواياها ومفاصلها وشروقها وغروبها.
** قد تكون السيرةُ «الغَيريةُ» التي يكتبها الآخرُ عن الأنا أكثر صدقًا وإنصافًا وبخاصةٍ إذا تحررت من قيود التزامنِ وقت الحياةِ أو النفوذ، ولكن تجردَها من المصلحة والهوى والمجاملة أمرٌ عسير.
** تخطانا العالمُ الغربيُّ بوجود متخصصين يحررونها ويتحررون معها من قيود الشخصنة والتورم، وعُهد في المتميزين من كتابها عدُّهم إياها بحثًا علميًّا تتوافر له المصداقيةُ والنزاهةُ والدَّأبُ والتحري، وقد يلجأون إلى مقابلة الرواياتِ ببعضِها والسفرِ من أجلها غيرَ مكتفين بما يقوله صاحب السيرة أو ذووه، وهنا تبدأ الخطوة الأولى لقراءة سيرٍ ذاتيةٍ عربيةٍ مختلفة.
** السيرُ عِبر.