مثلما أن العدالة تتكون وتفرض ذاتها ببطء يبعث الريبة فيما نظنه حقا مكتسبا.. كذلك النسيان لا يقبل الحضور الصاخب إنما ينساب لحنايا الذاكرة دون ضجة.. ليس لأن حركة التغير معجبة بالتأخير.. لكنها المقاومة التي تسكن الإنسان.. وتشبثه بما كان يملكه.. وإصراره على الركود داخل صندوق العادة وتعالي غريزة التملك لديه..والمثير للسخرية عندما تتشبث بشخص أو أمر تعلم يقيناً أنه يؤلمك وقد يضرك وقد لا يمنحك قدراً من الاكتفاء.. لكنه في المقابل يمنحك لذة ومُبتغى لست جاهزاً كفاية للخلاص منه.. خوفاً على ذلك الشعور من التلاشي.. وشكا يسكن المنطقة الوسط بينك وبين البديل.. إنها العادة والتعود.. آفة العجز التي لا يفطن لها الإنسان إلا لحظة فوات أوان المتعة وشيخوخة الرغبة.. وإذا أمعنت النظر فيما يرفضه الإنسان كالحرية على سبيل المثال.. ستجد الرفض مبنيا على التوقعات وهراء الشك.. ولم يخضع لمبدأ التجربة إنما يكفي أن يزرع الخوف بينه وبينها ويكتفي بالنظر إليها من بعيد..ويصدر الأحكام بناءً على الظاهر أمامه ومن خلف جدار الجبن والمسمى مجازاً بالحماية!
الإنسان.. الكائن المعجزة.. الذي يلمس بيديه أثر تجارب من غيروا الحياة.. وكيف كان لإصرارهم أن يقلب موازين كُنا نظنها بوضعية معينة ثابتة.. فإذا بإنجازاتهم تنسف ظنون سنين مديدة.. ولو أنهم استسلموا لما قيل.. لما تحركنا ولا تغيرت الحياة.
بالتكرار تتكون العادة ومن خبثها أن تتربع على عرش العقيدة.. ومن ثم يشرّع لها الإنسان مسوغات لأن تكون نهائية وصولاً للأبدية.. إنها حيل الإنسان التي يمارسها على ذاته..لأنه يظن أن المألوف حتماً صديق.. والغريب لابد أن يخالطه شك العداء وظنون الشر!
العادة درب الذل.. أرجعها شكسبير للحاجة عندما قال «الحاجة تزرع في المرء العادة» ولا شك أن الرغبة دافعٌ شجاع، أما الحاجة فهي لصيقة العجز والفقر وقبولٌ بفتات الموائد على أنه منّة وعطاء.. بينما الرغبة اختيار الجسور الذي لا يهاب.. لإيمانه بالاستحقاق قبل خوض المعترك.
يكفي من العادة أنها تحجب خلفها مبررات مُخجلة.. قليلاً ما تخرج عن حيز الخوف.. وتحبس الرغبة كأنها ترف لا يملكه المنفي من مجالس الحظ.. كأن الحظ يختار أصحابه.. فالحظ يمنح الفرص وموجود أينما كان الإنسان.. يركع لمن سعى إليه.. ويحتقر من يغض الطرف عنه.
فالفرق كبير بين من يقبل المتاح.. ومن عينه صوب مبتغاه لا يحيد عنه حتى يصله.