بعد الكذب يأتي الغباء في المرتبة الأكثر إثارة للإزعاج والتعجب في ذات الوقت.. وفي المجتمعات البسيطة يكون المظهر شرطاً للتقبل وخطوة أولى لمحاولة فهم المخبر.. في عملية عكسية للمنطق والذكاء والواقع.. فكيف يمكن أن تكون هيئة الإنسان البوابة الأولى التي تدخل منها الثقة وإمكانية التعامل والتصديق والاحترام والهيبة والتقبل!.. إنها سطحية التفكير وفراسة البطيخ التي يعيشها الكثير.
عندما نؤطر للسلوك صورة معينة.. لنحدد الصالح من الفاجر.. والصادق من الكاذب.. والطيب من الخبيث.. والمتدين من المتحرر.. ألسنا نمنح للآخر خارطة واضحة المعالم لكيفية استغلالنا!
فإن أردت هيبة وتمكيناً لتتصدر المجالس فالصورة المطلوب تقليدها وتقمص صفاتها معروفة للجميع.. وإن أردت تحرراً ورفقة ملذات تعرف أي شكل تختار لتجذب أقرانك ويجدك النديم دون أن يكون للتعامل أي دور في المراحل الأولية لبناء العلاقات والأهداف.. والزمن كفيل بإخراج سريرة الآخر.. لكن بعد ماذا؟
بعد أن تقع الفأس في القلب.. فهل بناء العلاقات والثقات مقامرة لا نعرف نتائجها إلا في النهاية.. أم ماذا؟
تعلقنا بالمظهر المحدد أنتج لنا خللاً في منطقية بناء العلاقات مع البشر.. وسذاجة في الحكم على الآخر قبل معرفته عن قرب.. أليس بيننا من يقرر أن فلانة أو فلان منحرف أو شاذ أو غاية في التقى والاستقامة من خلال الحكم الشهير «شكله راعي كذا.. شكله صايع.. شكله طيب.. شكله غبي.... إلخ».
كلنا نعرف البعد الديني للحكم على الناس.. لكن ماذا عن البعد الأمني.. وعندما نتحدث عن الأمن فهو شامل للأمن السياسي والاجتماعي والعاطفي.. إنها آفة التصنيف التي تختصر الإنسان بغموضه وتعقيداته ومشاعره وأفكاره وتجاربه بصورة نمطية تسقط أمامها كل تلك الأهرامات الراسية.. ولو رجعنا لأصل التصنيف من أين وكيف جاء.. أظنها لن تتعدى مرحلة كانت فيها الألقاب تعد هوية الإنسان وتحدد مصيره ومكانته.. تناقلتها الأجيال وغيرتها وفي نسختها الحالية وصلتنا على هيئة صور نمطية.. كأن البشر خلف الكواليس كل منهم يختار الزي الذي يناسب دوره ليمثله على مسرح الحياة.. وحقيقة الممثل ليس لها قيمة ولن تؤثر في الجمهور لأنها بعيدة عن اهتمامه وخارجة عن النص والحوار والسيناريو.. يحتفظ بها لنفسه ولا يحتاج أن يمارسها.
فأكذب ما في الإنسان لسانه.. وهيئته العامة قناع يمكن تبديله وتزييفه.. أما المواقف والأفعال فهي حقيقة ونزعة عميقة لا يمكن تمثيلها بإتقان كل مرة.. فالبخيل يخاف الكرم.. والخائن تسبقه شهيته ولن يطيق مشقة الصوم عن الغدر.. والمنحرف لن يجد في الطبيعة متسعا من اللذة.
لذا فإن المحبوسين في تصنيف البشر سترهقهم ويلات سقوط الأقنعة.. ومن أراد الصدق والأمان فإن قيمة المظهر تتلاشى في ميزانه.