تمتد بين كتابي [من يجرؤ على الكلام] و[لا سكوت بعد اليوم] مسافةٌ رماديةٌ، تسمع فيها دوي لغط يفيض بالمتناقضات.
والتخرصات لا تكون إلا حين تكون فداحة الحدث، وذهول المواجهة، والفرار من الزحف. بل لاتضيع خيوط القضايا، إلا حين تكون مذهلة، ومفاجئة.
وكلما تداعت الأقلام على حدث مفزع، أصبحت حواشيه مهوى أفئدة الفارغين، يوسعونه مدحاً كاذباً، أو قدحاً ظالماً. ولكل قارئ مبررات رؤيته، وحيثيات خطابه.
ومما هو معلوم من السياسة بالضرورة، أن النوازل السياسية أشد، وأعتى من سائر النوازل الأخرى. لأن على يدها تتقرر مصائر الشعوب، وهي التي تغير مجرى التاريخ.
والخطورة في أن لكل نازلة من يحسن إدارتها، ويجود تحرر مسائلها، ويؤمِّن مخارجها، إلا نوازل السياسة، فإن أكثر المبادرين لها لا يعرفون أبجدياتها، وظنهم الذي أرداهم، يؤكد لهم التفوق، والتألق.
والتجربة الانقلابية في الوطن العربي خير شاهد على تَخبُّطِ المواجهة لأبسط النوازل، وأقلها خطورة.
وحين أجد مشروعية القراءة لكل عارض سياسي، فإنني لا أجد مشروعية القطع بأن قراءتي قول فصل، ورأيي لا معقب له.
ومن أخذه مثلُ هذا الشعور الاستقطابي حول الذات، صار ضرره أكبر من نفعه، لأنه يغلق بقطعياته باب الاجتهاد، وسبيل المراجعة.
وجرأتي في قراءة الأحداث السياسية، والنوازل المدلهمة، التي لم تكن من تخصصي -وإن احتلت الذروة في المتابعة، والقراءة الحرة- لا يبررها إلا تهافت القراء من كل صوب على نوازل مصيرية، وليس لأحد منهم فيها قدم صدق.
المعروف، بل والمستفيض أن الوضع العربي، وتاريخه السياسي الحديث يلهي نخبه عن كل قراءة لما سواه، على شاكلة قصيدة «عمرو بن كلثوم» التي ألهت «بني تغلب» عن كل مكرمة.
ما يشغل المشهد العربي في راهنه ظاهرتا [داعش] و[الحوثيين]. والقراء المشتغلون بنوازل المسرح السياسي يختلفون حول تقويم هاتين الظاهرتين. وهم يختلفون أيضاً فيما سوى ذلك من النوازل المتكاثرة، بقدر تكاثر الضباء على [خراش]. ولكل قراءة ما يبررها، ويغري بتصديقها، والتسليم لها.
ولما لم تكن قراءة النوازل من التسلية، وملء الفراغ، فإن تقحم أتونها من المآثم والمغارم. فكم من قراءة فوتت على الأمة فرصة المبادرة، واتقاء الموبقات، وكشفت عن ضحالة القارئ، وجهله. هذا فضلاً عمن تتلبس قراءاتهم بالمؤامرة، أو الموطأة المشبوهة.
ولو جاءت القراءات قريبة من الصواب، لما منيت الأمة العربية بهذه الإخفاقات الموجعة.
ونحن حين نستخف بالنوازل عند مقاربتها، نزيد من مآسيها، واستحكام حلقاتها. والإخفاقات الذريعة في القراءات، والجرأة الفارغة من أي حساب للعواقب تزيد في تعقيدها، واستحالة تفادي ضررها.
وبصرف النظر عمن يتعاطفون مع هاتين الظاهرتين - بدافع ديني غير سوي، أو بدافع احباط منشؤه تلاحق الانكسارات، لكون هؤلاء، وأولئك بهذا التعاطف طرفٌ في المشكلة - فإن سائر القراء يبدون تخوفهم من تلاحق النجاحات، وخطورتها على أمن البلاد، واستقراره، بل وتهديده للكيانات السياسية، ولاسيما أن مضمراتهم -حسب تصور أولئك- قد تمتد إلى دول الخليج، طمعاً فيما هي عليه من ثراء عريض.
وآخرون يسلمون بأن الظاهرتين تمثلان كيانات قوية، متماسكة، واعية، وذات [أيديولوجيات]، ومواقف. وتنطلقان من إيمان قوي بأهدافهما. ومن ثم فإنه من الممكن استنساخ هاتين الظاهرتين، أو إحداهما في دول الخليج.
وهذه القراءات -وإن كانت من القراءات الغرائبية- لاتضر، على حد [من خاف سلم].
وقراءتي، وإن اختلفت مع كل ما سبق، وكل ما هو لاحق، فإنها تظل في إطار المحتمل.
سلفت لي قراءات حول الوضع اليمني، منها ما نُشر، وأثار بعض التساؤل. ومنها ما لم ينشر، لأي سبب. وملخص قراءاتي للوضع اليمني تقوم على أنه سيظل مستنقعاً، داخله مفقود، وخارجه مولود. وآخر درس موجع مساندة [مصر] في عهد «جمال عبدالناصر» لثورة «عبدالله السلال».
وأما عن [داعش] فلم أتحدث عنها بتوسع، إلا في هذا المقال، وإن كنت قد أشرت إليها في مقال [إما التعايش، وإما التداعش].
الحوثيون، والداعشيون، لافتات، أو مظلات، تتحرك من خلالها تنظيمات، وفئات، وأحزاب، تمارس تصفية الحسابات، وتأكيد الذوات. والظاهرتان لا ترتبطان بقواعد اللعب السياسية، ومن ثم تتوفران على فضاءات واسعة. وتتوسلان بالمتناقضات ومن تتوفران على فرص متعددة. هذه السمات تجعلني أقطع بأن [داعش] و[الحوثيين] فقاعات، قوية الأثر، سريعة الانتشار، سريعة الاضمحلال.
ولا يمكن لمثل هاتين الظاهرتين الوجود الفاعل إلا في الكيانات الهشة، والموبوءة.
لقد وُجِدت [داعش] في [العراق]، و[الشام] لضعف الكيانات السياسية، واستفحال الطائفية، والقبلية، والحزبية، وانهيار المعنويات، والفراغ الدستوري.
ففلول حزب البعث، والقبائل المضطهدة، والجيش المنحل، والثارات، والتصفيات، هيأت لداعش فضاءات واسعة، مكنت لها على أرض [العراق]، ومارست ردود الأفعال من خلالها.
والأمر كذلك في الشام، وحين تصفى الخلافات بين أطياف الشعب العراقي، تتلاشى [داعش]، وتذوب في الكيان السياسي الموحد، وينسى القراء قراءاتهم الغرائبية، ولايجدون غضاضة من طرح قراءة جديدة، تقلل من شأن هذا التنظيم. وتلك مشكلة المشهد السياسي، فـ[كلام الليل يمحوه النهار].
ولك أن تقول مثل ذلك عن الظاهرة الحوثية، لقد كانت لبعض قيادات الجيش اليمني أطماع في السلطة مدعومة من الكيان السياسي السابق، ولم يجد الطامعون أفضل من العباءة الحوثية، يلتفون بها، ويتقنعون بأرديتها. ومن السهل بعد الفراغ إفراغها من محتواها، وتصفيتها، لأنها مجتثة من فوق الأرض، ومدعومة من خارج الكيان.
وحين يسقط النظام، وتُنهك القبلية، وتأتلف الأقاليم، يُماط اللثام، ويُحسر عن الرؤوس، ويقول المتقنعون بـ[داعش] و[الحوثيين] مثلما قال الحجاج من على منبره:-
[متى أضع العمامة تعرفوني].
لكل هذا لم أعبأ بهاتين الظاهرتين، ولم أقم لهما وزناً، فكل من يستمد وجوده من خارج كيانه، لا يكون مستبداً في يوم من الأيام، [والعاجز من لا يستبد].
وهاتان الظاهرتان لا يمكن أن يكون لهما وجود في دولة تستمد قوتها من جبهتها الداخلية.
أقول قولي هذا، وأملي أن نأخذ حذرنا من كل ظاهرة، بعد أن نضعها في مكانها الطبيعي، فالمقدمات الخاطئة، تؤدي بالضرورة إلى النتائج الخاطئة.