في تلك المقاربة الوجِلة لوحل المخلفات السياسية، لا أريد لقلمي أن يكون مرتهناً لتقلبات الطقس السياسي، الذي لا يَقَرُّ على حال. حتى لكأنه المرآة في كف الأشل، ما لضوئها من قرار..
..وحين أكون من حَمَلة الهم الإسلامي - على ما أنا عليه من ضعف في الإمكانيات، وخلل في التصورات - وفي ظل تحولات نُخَبه، وأهل الذكر فيه، فإن قلمي يَنْجَرُّ طوعاً، أو كرهاً إلى تلك التقلبات الطقسية غير المستقرة، وغير المتوقعة. ومن ثمَ لا يسلم من دخنها، ولكنه لا يتلبث فيها إلاَّ قليلاً.
وهو حين يتقحم أتون المشاهد، يبذل كل ما يقدر عليه من جهد، لتفادي الانزلاق، والتقول على شخصياتها، والتخبط في الحديث عن أحداثها بغير علم.
ومع هذا فإنني لا أزكي نفسي، ولا أراهن على سلامة مقارباتها من اللمم غير المقصود.
وكيف تتأتى العصمة، والناس كلهم خطاؤون. وكل ما يتطلع إليه الكيِّسُ، أن يكون إلمامه بالقضايا السياسية قائماً على الإخلاص للدين، والصدق مع الوطن، والسمع، والطاعة لولي الأمر الذي أُعْطي البيعة، ولم يحدث كفراً بواحاً.
وقراءة الخطابات الحاضر منها والباد، إن لم تُراجع المرَّة تلو الأخرى في سبيل التصحيح، والتنقيح، والمساءلة، تتراكم في عوالمها الأخطاء، وتعوج السبل، وتدلهم الآفاق. ثم لا يكون إلا التردي مع الرديء. وهذا ما نراه ماثلاً في مشاهد عالمنا السياسي، والفكري.
كنت وأنا ألملم أفكار هذا المقال حديثَ عهدٍ بكتابي [أخلاقيات القراءة]، و[خيانة المثقفين]، والأول، وإن كان خاصاً بالقراءة النقدية، ومقتصراً على الإبداعات الأدبية، إلا أنه يعطي خلاصات أشبه ما تكون ببصيص النور في أعماق الكهوف المظلمة، ولا سيما أن الكتاب المشترك التأليف يومئ إلى مهمتين في القراءة:-
- المهمة الأخلاقية.
- وارتباط الأدب بالمجتمع، والتاريخ، والسياسية.
وهذا كاف لتلمس بعض الفوائد، أو التوجيه إليها.
أما الآخر فإنه يتعقب قراءات المثقفين التآمرية، والمدفوعة الثمن، ومسايرتهم لسلطاتهم المتسلطة، على الرغم من معرفتهم بالصواب.
ليس مهماً أن نكثف القول في التنظير، ونحن أمام كم هائل من الشواهد على أخطاء القراءات، وانعكاس ذلك على ردود الأفعال، وخرائط الطريق.
فعلى سبيل المثال قرأنا [الخطاب القومي] لدى [جمال عبدالناصر] على أنه الخيار الأول، والأمثل، وإن كان مضارعاً [للخطاب الاشتراكي] أو معادلاً له.
وحين خلفه [السادات] أوجف على مشروع سلفه بالألسن، والأقلام، بحيث طمس معالمه، وأهال على ضريحه، وإرثه الترابَ. وتلك شنْشنةُ الانقْلاَبيين، إذ كلما دخلت عصابة قصر الحكم، جَرَّمت، وخَوَّنت سلفها.
لقد طرح [السادات] خطاباً معاكساً لخطاب سلفه، ينطلق من قاعدتين مناهضتين للمستتب، والمهيمن، والمسَلَّمِ له.
- الانفتاح الاقتصادي المناقض للاشتراكية.
- العودة إلى المربع الغربي، والمصالحة مع العدو.
ولما كان الشارع العربي متشبعِّاً بالقومية، والعنترية الفارغة، والعداوة المستحكمة للغرب، أُكْرِه القادةُ العرب على مقاطعة [السادات].
ولو كانت القراءات السابقة لمشروع السلف، والخلف، صحيحة، لما كان الاندفاع مع الأول بدون وعي، والتولي عن الثاني بدون اتزان. إذ لم يُقْرأ الخطابان بعيون العقل والقيم، والمبادئ. وإنما قرئا بعيون المصالح، والعواطف.
لقد لعب الاثنان لصالح الذات، وصالح الداعم، والممول، ولم يحمل أحدهما الهم المجرد من الرغبات الذاتية، وتكريس الوجود المتسلط.
حتى عندما فك [السادات] أسر «الإخوان المسلمين» ومكنهم من ممارسة حقهم، لم يكن معهم، ولكنه مضطر، لإيجاد معادلة بين القوى المتصارعة.
والدليل على ذلك أن «التنظيم السري» للإخوان، الذي كان له تاريخ مشهود في الاغتيالات، منذ العَهْد الملكي، قد اغتاله على مسمع، ومرأى من جيشه، وحرسه.
ومع كل هذه الحقائق الدامغة، لم تكن القراءة صحيحة، ولا سليمة، لا للمشروع الناصري، ولا للمشروع الساداتي، ولا لمضمرات «الإخوان».
و[الملك فيصل] رحمه الله، حين فتح أبواب بلاده للمشردين، والمطاردين من «الإخوان»، فإنه لم يكن إخوانياً، ولا حزبياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، كما لم يكن هذا الاستقبال خياره الرئيس، وإنما كان مضطراً إلى ذلك، لإيقاف المد الاشتراكي، وتحجيم المد الشيوعي الملحد، وحفظ التوازن بين القوى.
ومشروع التضامن الإسلامي الذي طرحه، لا ينتمي إلى حزب، ولا إلى طائفة، ولم يرتبط بأية [أيديولوجية]، وإنما وسع العالم الإسلامي بكل أطيافه.
ومن ثم يوصف هذا المشروع بمرحلة الاضطرار، لا مرحلة الاختيار. والدليل على ذلك أن «نكسة حزيران» التي كسرت ظهر الانقلابات العسكرية، لم يبادر في إقالة عثرتها إلا [الملك فيصل] في [مؤتمر الخرطوم]. ذلك أن ضربة التأديب، والإفاقة مطلوبة، ولكنها إذ لم تكن متوقعة بهذه الفداحة، فإن [المملكة العربية السعودية] بادرت إلى لملمة ذيولها، والحيلولة دون امتداد أثرها السيء على أرجاء الوطن العربي كافة، الذي لم يكن طرفاً فيما يدور في المشاهد.
لو قرئت تلك الأحداث، وقرئت الشخصيات بطريقة سليمة، وعرفت المقاصد، والنوايا، لما كانت حالة الأمة العربية في سفال.
ولما كان السواد الأعظم مع من يرفع شعار الدين المسيس، دون مساءلة لما يجري في الخفاء، فقد توسل به الصادق، والكاذب. والله وحده المحصل لما في الصدور، ويومُ ابتلاء السرائر، لما يأت بعد.
لقد ذكرني أحد قراء الحلقة الأولى بمقولة «الزهاوي»:-
[وما كُتُبُ التاريخ في بعض ماروت
لقرائها إلا حديثٌ ملفق
بصرنا بأمر الحاضرين فراعنا
فكيف بأمر الغابرين نصدق]
كل الذي أتطلع إليه استبعاد القراءات الغرائبية، القراءات التي تمكن الوصوليين من تحقيق أهدافهم المضمرة.
لقد عايشنا شعارات متعددة، فيها جاذبية، وإغراء ولكنها كاللهب تجذب الفراش لتحرقه.
إنني لا أعدم مَنْ «يُحَوْقِل»، و»يسترجع»، ويظن أنني سيئ الظن بكل الأطروحات المتعددة الانتماءات، ولا تثريب، فما أنا إلا من هؤلاء القراء، أعْرِضُ ولا أفرض.
وعلى الرغم من أن من حق الجميع التوقف، إلا أنني أود تنحية العواطف، وحسن الظن، و أُحَبِّذُ التوسل بالمنهج «الديكارتي».
فالسياسة [فن الممكن]، وهي أبداً مع المصالح، وليست مع المبادئ. والعالمان العربي، والإسلامي مخترقان، ومخدران، ومهمشان، ولا يملكان البت في القضايا المصيرية، والخطابات كلها، لا تستحضر هذه الرزايا..
تلك مسلمات، لا مزايدة عليها، ومن أنكرها، فقد جهل أبسط الحقائق.
هذه الظروف الطارئة، تتطلب استدعاء «فقه الواقع»، و»فقه التمكين»، إذ لم نكن في قوة [هارون الرشيد] الذي أطل على سحابة أرعدت، وأبرقت، ولم تمطر، فقال لها:-
أمطري أنى شِئْت، فإن خراجك عائدٌ إلي.ولم نكن في قوة [المعتصم] الذي سمع المستصرخة في [عمورية] وهي تستغيث:- وامعتصماه، فهب لإنقاذها، وفتح [عمورية].
إن علينا أن نعرف قدر أنفسنا، وأن نرتب أمورنا وفق إمكانياتنا، وألا تلهب عواطفنا الخطب الرنانة، التي تلقي بنا في أتون الفتن.
إن من القراءات الغرائبية أن نصيخ إلى خطب الأحزاب، والمنظمات، والجماعات التي يدعمها الأعداء، ويهيئون لها الأجواء المساعدة، لتمارس القول، والفعل. وقد يمكنونها من تنفيذ الضربات الموجعة، لانتقال التأثير بالقول إلى التأثير بالفعل.
ولست بحاجة إلى ضرب الأمثال، فالمشهد العربي متخم بمثل ذلك، ولفيف من شبابنا يتهافت على تلك الجماعات، والمنظمات، والأحزاب مشاركاً بالقول، والفعل، ظناً منه أن وطنه قاعد مع الخوالف.
والحظورة تكمن حين تكون قراءتنا للظواهر، والأحداث خاطئة، ومؤثرة على أمننا، واستقرارنا.
إننا لا نعالج قضايا الغير، وإنما نعالج أدواءنا، ونُحَذِّر من قراءات غرائبية يمارسها أبناء جلدتنا، ثم يمضون مع نتائجها غير هيابين.
فهل نرعوي، ونعي ما يحيط بنا، ونعيد قراءة الأصوات، والظواهر بعيون غير زائغة؟
إن بوادر القراءات الآنية، لا تبشر بخير، ولاسيما أن العوار باد للعيان، ومع بُدُوِّه نجد من يبرر، ويُعَذِّر، ودعك ممن يدعم بالقول، والفعل، ويجاهر في التزكية.