ومما يزيد الوضع سوءاً أن بعض من يتطوعون لمواجهة الرأي الآخر بمفردهم من المؤسسة الدينية، أو من خارجها، لتفادي المساس بالمسلمات الدينية أو العرفية، قد لا يحسن البعض منهم إدارة الأزمات، وفض الاشتباكات.
ذلك أن جلَّ القضايا، يحكمها الفعل العنيف، ورد الفعل الأعنف. والأداء في ظل التوتر يُعَمِّق الخلاف، ويعيق الائتلاف.
وهاجس المختصمين حين يُعوِّلُ على الانتصار، ويَجْعلُ البحث عن الحق ثانوياً، يستفحل معه الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق. وهذا بعض مانرى، ونسمع، وما لا ينكره إلا مكابر.
فحين يقول فضولي بمسألة مخالفة للسائد، وإن كان لها أصل في كتب المتقدمين من الفقهاء، ينبري له متوتر، متسرع، يزيد بلجاجته، و تهويله احتقان الرأي العام، ويحول دون احتواء المخالف.
وفوق هذا، وذاك، نجد أن الرأيَ العام في بعض أحواله ضَيِّقُ العطن، محتدمُ المشاعر، سيئ الظن، ينفعل، ويثور لأتفه الأسباب، وتخيفه الأقوال، والأفعال العارضة، وكأن ثوابت الدين مجتثة من فوق الأرض.
فحين تثار قضية ثانوية، من إنسان ثانوي، في ظروف لا تحتمل مزيداً من المناكفات، يوجف السرعان بخيلهم، ورجلهم، ويضخمون الأمور العارضة، والأحداث العابرة. وكأن مصير الأمة مرتهن لممارسة تافهة، من رجل تافه، أو أن المصير مرتهن لِحُكْمٍ فَجٍّ، في مسألة جانبية.
وما يدري هؤلاء، وأولئك أن أفق الإسلام يتسع لهم جميعاً، تمشيا مع حديث [لا تزال طائفة من أمتي] فالطائفة المنصورة من الأمة، وليست هي كل الأمة.
ولو مَرَّ الأطراف المستهدفون بالإثارة، والإزعاج بمثل هذه الاستفزازات البائسة مرور الكرام، لتبخرت، ونُسيت، وانطفأت شِرَّةُ المزعجين.
فمثل هذه الاهتياجات الفارغة، تسهم في إيقاظ الفتن، وشغل الأمة عن معالي الأمور.
ومع تدفق المغْثيات، والغُثائيات، فإنني أتحامى ضرب الأمثال، وذكر الأشخاص الذين لا تراهم إلا حيث تكون الإثارة الفارغة، لأنهم معروفون بأسمائهم، وسيماهم. و مسائلهم مهترئة من الترديد، منذ أن فُتح بابُ الاجتهاد.
كما لا نريد من قولنا تعميق الخلاف، وتغذية النزاع، فمرادنا أن يربع الهلعون على أنفسهم، وأن يمتلكوا رباطة جأش [ابن عبدالمطلب] حين قال [لأبرهة]: أنا رب إبلي، وللبيت رب يحميه.
والتعريض من الأساليب التربوية، والتعليمية، التي وجه إليها الإسلام. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:-[مالي أرى أقواماً يفعلون كذا وكذا]. أو كما قال بأبي هو وأمي، وهو يعرفهم، ويعرف فعلهم، والناس يعرفونهم كذلك.
إن تقعير الرؤية، وتشخيص المسائل في التذكير مدعاة إلى التأزيم، والدخول في الجدل العقيم، وتغذية الفعل، ورد الفعل.
ومن المسلمات أنه لا يرفع الخلاف إلا السمع، والطاعة لما أخذت به السلطات التشريعية، من خلال المؤسسات الدينية، والمدنية، التي وُكِل إليها الأمر، ووفرت لها الإمكانيات.
وحين يختلف عالم من خارج المؤسسة الدينية الرسمية مع المؤسسة، فإن الاختلاف مشروع، والمراجعة مشروعة، والحجاج، والجدل مشروعان. وواجب المؤسسة إلقاء السمع، وأخذ المسألة بمتطلباتها، وتحامي مصادرة الحق، لمن أراد أن يطمئن قلبه، وبعد إنضاج المسألة المختلف حولها، يكون الحسم في النهاية للمؤسسة المخولة من السلطة التشريعية. إذ لو ظل الجدل، دون مرجعية رسمية، لاحترقت المسائل، وأحرقت من حولها.
فإذا كانت المسألة التي تثار في وجه المؤسسة الدينية مسألة خلافية، فإن هناك قاعدة فقهية مفادها: [أن حكم الحاكم يرفع الخلاف]، بمعنى أن المؤسسة الدينية المخولة من الحاكم، حين تأخذ بقول راجح، أو مرجوح، وتُعرض عن سائر الأقوال، يكون حكمها نافذاً، وواجِبَ الطاعة. لأنها تقول على لسان الحاكم، والحاكم يرفع الخلاف، ويفض النزاع باختياره القائم على التداول، والتشاور، والترجيح. وهذا ماتقوم به مؤسسات الدولة.
وإذ يكون الاختلاف قضية أزلية، لا مناص منها، فإن السلطات التشريعية تنهض بمهمة حسم الاختلاف بالاختيار، بعد التداول المشروع.
فالمسألة التي يختلف حولها الخاصة، أو العامة يكون حكم الحاكم فاصلاً بين المتنازعين، وساداً لباب الاختصام.
وأخذ الحاكم برأي، دون سائر الآراء المعتبرة، لا يعني فساد ما سواه، وإنما يعني إنهاء النزاع، وحمل الكافة على مايراه الحاكم، الذي وفَّر للمؤسسة الدينية العلماء الورعين الناصحين الآخذين بالكتاب، وصحيح السنة، وفق أصول المذاهب المعتبرة، وقواعد الفقهاء.
وإذا أصر عالم غير منتمي إلى المؤسسة على رؤيته، فإن له تمثل مايرى، دون منازعة السلطة، ومؤسساتها، ودون إعلان المخالفة، ودعوة الناس إلى الأخذ برأيه.
فإن فعل شيئاً من ذلك، وجب على ولي الأمر أطره على الحق، ورده إلى الجماعة، لأن يد الله مع الجماعة، وارتكاب أهون الضررين بمنعه من ممارسة المخالفة لاختيار المؤسسة الدينية، حتى وإن كان ما يراه العالم فاضلاً. لأن جمع الكلمة، ولم الشمل، بحمل الكافة على اختيار المؤسسة الدينية أفضل من ذهاب كل مجتهد بما يرى. فالتنازع مدعاة لتفكك الجبهة الداخلية.
والمتابع للمشهد الديني عبر المنابر، والقنوات ومواقع التواصل، لا يسره مايسمع، ويرى من تنازع عنيف، وتناجي أعنف. فيما تظل المؤسسة الدينية المخولة مهمشة. وفي هذا مخالفة شرعية، ومدنية.
هذه الظواهر التي أشرت إلى بعضها تؤكد سوء المشاهد، ووقوعها في أتون الفوضى.
ذلك مثل نضربه، وشاهد نسوقه، ولو مضينا ننقب في المشاهد السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، لتبدى لنا عوارها.
في النهاية - وقد سَلَّمنا للاختلاف - فإنه لابد من إدارة حكيمة لهذه الفوضى التي نراها رأي العين.
فالمتابع للقنوات، والمواقع يهوله مايرى من تصرفات استفزازية، وعمل مستنكر، لا تستدعيه المواقف، ولا تستسيغهُ الفطر السليمة، ومايسمعه من ضخ معرفي متعدد الآراء والمصادر، وهو ضخ لا يراد منه إثراء المعارف، وإنما يراد منه إذكاء التنازع، والأمور بمقاصدها.