المغموس في عوالم الحرف المكتوب، والصوت المنطوق. إما أن يكون عاطفياً متأجج المشاعر، إذا ما رعته اهتاج أعزلا. أويكون عاقلاً يغرس مجساته فيما يسمع، وما يرى، ويقلب الأمور، ويضرب بعضها ببعض، بحيث لا يكون علاًّ ولا عالة.
فالأول مضياع لفرصته. والآخر يَشْقَى بمستخلصاته. والحياة بين هذا، وذاك تموج بالمتناقضات المقلقة، كي تُحَقِّق في الناس أجمعين قول الباري جلَّ وعلا:- {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}. فالناس في مكابدةٍ للآراء المتناقضة، ومغالبةٍ للتنافس الدنيئ، على الدنيا الدنيئة.
والخَلِيُّ من يقضي حياته كصخرة [المتنبي] التي لا تحركها أنواع الملذات، ولا يهزها جميل الأصوات، يعيش حياة بهيمية عَيْنُها فيما تَعْتلِفْ، متمثلاً مقولة :- [أعيش لآكل...] وهذه الفئة تعبر الحياة كالقطيع الذي يجمعه الطبل، ويفرقه السوط.
والخطابات المقروءة، ليست بالضرورة قصراً على المسطور، وإنما تمتد إلى سائر وجوه الحياة.
فمصطلح [الخطاب] في عوالم الفكر، والسياسة يعني الرؤى والتصورات، والأقول، والأفعال [المؤدلجة] أو المسيسة.
وهذا التخطي المصطلحي من الدلالة الوضعية إلى الدلالة المصطلحية مُرْبِكٌ لمن لم يستوعب التحول اللغوي.
ولقد يكون من المفضول إنفاق الجهد، والوقت في تحرير هذا التحول بالقدر الكافي، والرافع للالتباس.
وحين نتعقب القراءات التي حَدَّدت مصائر الأمم، ثم لا نكون مستصحبين لهذه الطوارئ الدلالية، نقع في مصميات المقدمات الخاطئة، التي تؤدي في النهاية إلى نتائج خاطئة.
وكم تستنزف هذه الأخطاء من الجهود، والأموال، والأوقات المهدرة، وكم تفوت من الفرص النادرة.
ومما يُعَرِّي الأخطاء تلك الأجهزة الحديثة، التي تُمكِّن المتابع الدقيق، والراصد الحذر، من استعادة الأحداث المصيرية بالصوت، والصورة، والنقد، والتحليل.
وما أكثر القضايا التي ثوت في طيات التاريخ، بمفاهيم فَجَّةٍ، ثم لما انبرى من أعاد قراءتها بعد أمة، اكتشف خطأ التصور، ولكن بعد فوات الأوان.
هذه الاستبانة المتأخرة للصواب، تزيد من تحسر العاقل، وتَحْمِلُه على الشك في كل الثوابت، والمسلمات، التي توارثها الناس جاهلاً عن جاهل، وسلموا لها.
لقد عُنِيْتُ باستعادة الشخصيات الهامة، التي حَبَّرت التاريخ الحديث، واستعادة الأحداث الأهم التي غيرت مجراه، وقلبت موازينه.
واستبان لي أن أكثر القراءات لم تكن مستكملة لمتطلبات القراءة السليمة، بحيث أكدت أننا ننطوى على مفاهيم مخالفة للواقع، ونستميت في الدفاع عنها، والرهان عليها.
واستمرار التيه يؤجل السلوك السوي، إذ في ذلك ضياع كثير للمصالح، وإرهاق أكثر للجهود، واستنزاف مسرف للطاقات، وضياع في النهاية للمكتسبات.
في هذه الاستعادة المتأنية، والمتأملة تبدت لي القراءات الغرائبية.
ومع كل التجليات فإنه لما يأت بعد الترتيب السليم للأمور، وكان يجب بعد تجلي خطأ القراءات للخطابات التحرف، أو التحيز لما ينجي.
ثم إن المتابع قد لا يعيد حساباته، لما يحدث الآن في مجمل عوالمه، بحيث يتقبلها دون مساءلة.
سأضرب مثلاً، أو أمثلة لتأكيد الغرائبية في القراءات.
كنت ولما أزل مغرماً بقراءة تاريخ الرجال المعاصرين، لأنهم مفاتيح الأحداث، ومتى تابع المهتم الشخصية المؤثرة التي رحلت، وتركت تاريخها المكتوب بيد المنتصر، أو المناصر، بتحيز، أو بدون تحيز لهذه الشخصية، تكشفت له حقائق لم تكن معروفة من قبل.
والموجع أن تكون هذه الحقائق المتأخرة الحضور غائبة عن الشخصيات التي اصطرعت مع أولئك. فترتيب المواقف على الرؤى الخاطئة، يؤدي إلى الإغراق في المشاكل، ويضاعف الخسائر، ويبطئ بالنتائج المنشودة.
فعلى سبيل المثال استعدت بالصوت، والصورة تاريخ زعماء العصر الحديث كـ[الملك فيصل] رحمه الله، و[جمال عبدالناصر] عفا الله عنه، وسائر زعماء الثورات العربية، من بُنات، وهدامين، واستبان لي أن استعادة القراءة في غياب الخوف، والترقب، يمنح القارئ أفقاً واسعاً ، يمكنه من التبئير، والتثوير دون رقيب قامع.
صحيح أن أولئك أمم قد خلت، لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، ولكنهم إذ تحولوا إلى تاريخ له ما بعده. فقد يكون من الضروري إعادة القراءة، للإنصاف، والاستنارة، وتفادي تكرر التصورات الخاطئة، وهذا يعطي أكثر من فرصة لنفي الصور المشوهة.
والتأمل في النتائج المترتبة على ماسلف من قراءات غير مكتملة الإمكانيات مدعاة لإعادة القراءة بعد تولي الفتن، وهدوء العاصفة، وعودة ورثة التركة إلى التحرف لصياغة خطاب مناسب.
وعند قراءة هذه الكوكبة من الشخصيات السياسية التي فوت صراعها المفروض، أو المفتعل على الأمة فرص الحياة الكريمة، تتحقق بهذه القراءة المستخلصات، والنتائج، بحيث تساعد على قراءة سليمة لما يجري، وتكون معها العوائد أكثر سلامة، وواقعية [ والعاقل من وعظ بغيره].
وإذ لا نُسأل عما كان قد فعله أولئك. وإذ يكونون أمة قد خلت، فإن القراءات السالفة، التي ترتب عليها خطأ في التصور، وخطأ في التصرف، تمكننا من عدم تكرار الأخطاء، فيما نستقبل من أحداث، وما نعاصر من شخصيات.
وحين نحسن استعادتها، لا للشماتة، ولكن للاعتبار تكسبنا رؤية صائبة، لما يَجِدُّ من أحداث متشابهة [والتاريخ يعيد نفسه].
لقد طرح الثوريون شعارات أخَّاذة، ووصفوا خصومهم بأقذع الأوصاف كالرجعية، والعمالة، وفقهاء السلطان، وأذناب الاستعمار. وكان لبلادنا، وقادتنا النصيب الأوفى. وحين أقلنا العثرات، ورأبنا الصدع، كنا غير ذلك.
وتلك الافتراءات، أغرت الجماهير، وحملتهم على تلاحق الثورات الحمراء والبيضاء، وصيغت في أثناء ذلك عبارات، ومصطلحات معوجة، وأتخمت المشاهد بحشد من الزيف، ولما انجلى الغبار تبين كذب الدعاوى.
والإشكالية الموجعة أن هذه الوعود المغلفة بمعسول الكلام، أهلكت الحرث والنسل، وأذهبت الريح، وأذلت الشعوب، وسلبتهم الكفاف، وأفاضت عليهم بسراب القيعان.
وما نخشاه من قراءة الحاضر أن تكون كسابقاتها، ثم نحتاج إلى قراءة جديدة تصحح ما أعوج من القراءات السابقة. يتبع..