أويت إلى فراشي قلقاً من تلاحق الإشاعات، وأنا أردد :-
[ طوى الجزيرة حتى جاءني خَبَرٌ
فَزِعْتُ فيه بآمالي إلى الكذب ]
وفي الرابعة صباحاً استيقظت، لأتلقى حقيقة ما كنت أخاف منه:-
[ حتى إذا لم يدعْ لي صِدقُهُ أمَلاً ]، استرجعت، وحوقلت، وتذكرت قول الباري:-
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقوله لرسوله { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} والموت هو اليقين الذي لا يفر منه أحد، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} .
فرحم الله خادم الحرمين الشريفين [الملك عبدالله] وأسكنه فسيح جناته، وألهم أمته العربية، والإسلامية، وشعبه، وأنجاله الصبر، والسلوان . ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، ويكسبنا صلواته علينا، ورحمته، وهدايته لنا :- {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. وإنما الصبر عند الصدمة الأولى .
وبقدر حزننا على فقده، سعدنا بخلفه [سلمان بن عبدالعزيز] ملكاً، عادلاً، ناصحاً لدينه، وأمته .
لقد كنا، وما زلنا مع الأسرة الحاكمة، ما حكَّمت فينا شرع الله، وتحملت ما تقضيه البيعة الشرعية من تبعات . نواليها، ونؤيدها، ونرضى بمن تقدمه للنهوض بالمسؤولية، من أفرادها، أو من كفاءات الوطن . فتلك أمانة أخذوها بحقها، منذ أن وضع الإمام [محمد بن سعود]، والمصلح [ محمد بن عبدالوهاب ] قدم نجدٍ على عتبات التاريخ .
ولما نَزَل نتذكر إنجازات هذه الأسرة المباركة، منذ عهد المؤسِّس [الملك عبدالعزيز ] - طيّب الله ثراه - ونكن لملوكها الحب، والإكبار . وندين لهم بالفضل، ونسأل الله العلي القدير أن يجمع شمل الأسرة، ويسدد خطاها، ويدرأ عن البلاد، والعباد عوادي الزمن .
لقد فقدت الأمة العربية والإسلامية، بل وفقد العالم بوفاة الملك عبدالله شخصية مؤثرة، وذات رؤية شمولية، تراقب الأحداث، وتحيِّد بمواقفها خيار الصدام، وتغلب جانب الاحتواء، أو التحييد، أو المواجهة بالقوة الناعمة .
والسياسة المتوازنة التي توارثها قادة البلاد كابراً عن كابر، والثقل الديني، والسياسي، والاقتصادي، وسائر الأعماق المهمة، والثوابت السياسية التي تتمتع بها المملكة، جعلتها مثابة للأمة العربية، والإسلامية، وأمناً، ومناطاً لآمالها .
وأي حدث مصيري، تتعرض له الأمة العربية، تبدو على المشهد السياسي الرحلات [المكوكية] بين الرياض، وعواصم العالم .
وفترة حكم الملك عبدالله - رحمه الله - تشكِّل علامة فارقة في التاريخ السياسي للأمة العربية، وعلامة فارقة في سجل الإنجازات المحلية.
لقد كانت للملك عبدالله - رحمه الله - مبادرات، لم تكن حاضرة الذهن المحلي، ومجيئها في ظل الظروف القائمة، يعطيها قيماً إضافية .
فالحوار الوطني، وحوار الأديان اللذان أسهما في فك الاختناقات، وتخفيف الاحتقانات، والتقريب بين وجهات النظر، وحالا دون الصدام الفكري، والديني وحَسَّنا صورة الأمة الإسلامية، التي حوربت بالصوت، والصورة . كل هذا من مبادراته - رحمه الله -.
إنّ رحيل الملك عبدالله يُعَد يوماً حزيناً، لكل أفراد الشعب، ومكوّناته المتجانسة .
والعائلة الكريمة التي أعادت للشعب راحته، واطمئنانه بالانتقال الانسيابي للحكم، قادرة على ترتيب الأوضاع في أحلك الظروف .
لقد نُمْنا مطمئنين، وفي رقبتنا بيعة لملك، واستيقظنا وجلين، وفي رقبتنا بيعة لخلفه . ولم يحدث في عملية الانتقال من ملك إلى ملك، ما تتعرض له دول كثيرة من تنازع يخل بالأمن، ويقض مضاجع الأمة .
لقد فقد العالم العربي، والإسلامي بفقد خادم الحرمين الشريفين [الملك عبدالله] شخصاً مُسَدَّداً، وحكيماً متوازناً. واستقبلت رجلاً استوعب كل تجارب سلفه، وعاش معهم عن قرب، وشاركهم في صناعة القرارات المصيرية، وكان لهم بمثابة العون، والظهير .
فالملك [سلمان بن عبدالعزيز] - حفظه الله - وسدّد على طريق الحق خطاه، لم يكن بعيداً عن كل ما تنعم به المملكة من تقدم، وازدهار، وما تحققه من سمعة عالية. على الرغم من أن المملكة بما هي عليه من إمكانيات حسية، ومعنوية جزء من العالم العربي المضطرب.
فأي قرار مصيري يدار في المحافل الدولية يوضع للمملكة دورها. لقد كان قادتها صمام أمان، وكانت أرضها مهوى أفئدة المؤمنين، وملاذ الخائفين.
والملك عبدالله بسياسته المتوازنة، وقراراته الحصيفة، وصراحته، وصرامته ، ومواقفه الشجاعة في كثير من الأزمات ، انتزع إعجاب العالم.
والمملكة التي لم تقف يوماً مكتوفة الأيدي في أي حدث مصيري، لم تلهها هذه المهام الجسام عن مهماتها الداخلية .
لقد كان الملك عبدالله، وعضده الأمين سلمان بن عبدالعزيز، وراء التنمية الاستثنائية في البلاد، في الظروف العصيبة التي تمر بها الأمة العربية.
ومن ذا الذي ينكر النهضة التعليمية المتمثلة بالجامعات، والمعاهد . والابتعاث وخدمة اللغة العربية، والترجمة، بوصفها كوَّة نطل منها على الحضارات الشرقية، والغربية، فضلاً عن الخدمات الصحية، ورعاية الشباب، والطرق، والسكك الحديدية، إضافة إلى الحوار، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز المؤسسات الدينية والثقافية، ولو توسلنا بلغة الأرقام، لقطعنا بها قول كل خطيب .
إن السنوات التسع السمان التي قضاها الملك عبدالله على سدة الحكم، زامنت السنوات العصيبة على الأمة العربية، ومع ذلك استطاع أن يحقق فيها إنجازات، لا مجال لحصرها.
ومع ذلك فقد كرس شطراً من حياته لقضايا أمته العربية، والإسلامية، ومارس سياسة خارجية متوازنة، تقوم على لمّ الشمل، ومعالجة القضايا العالمية بالتي هي أحسن.
كان - رحمه الله - ينظر إلى الإسلام على أنه السلام، والأخوة، ولين الجانب، في وقت ضلت أمم، وهلك علماء، ومفكرون، وسالت دماء، ودمرت ممتلكات، واختل فيها الأمن، وفقد الاستقرار، وروعت الشعوب بالفراغات الدستورية .
لقد ملأ الفراغ الذي حل بالأمة العربية، حين تتابعت الانهيارات، يأسو، ويواسي، ويتوجع . ومن ثم وجد فيه العرب الأخ الأكبر، الساهر على المصالح .
إنه كما يقول الرئيس الأمريكي أوباما :- [زعيم صادق].
واليوم، ونحن نعطي خلفه الصالح [سلمان بن عبدالعزيز] البيعة، نجد فيه العوض، إذ لم يكن - حفظه الله - بعيداً عن كل ما سلف . لقد كان ولي عهد أمين، وظهيراً مخلصاً، وعضداً قوياً، وداعماً لكل القرارات المصيرية، ومباركاً لكل المبادرات .
حمل في العقود الخمسة الماضية ثلاثة ملفات جسام:-
- ملف الأسرة الحاكمة .
- وملف المثقفين، والمفكرين، والأدباء .
- وملفات التاريخ الحديث .
إضافة إلى [إمارة الرياض] عاصمة العالم العربي، التي تشكل دولة، بكل ما تعج به من كثافة سكانية، ومشاريع متعددة، ووزارات، وسفارات . ومرافقته للملوك السابقين، ومشاركته لهم في أحلك الظروف . إنه ملك بكل ما تحمله تلك الكلمة من معانٍ.
فله من شعبه الحب الصادق، والدعاء الخالص، والولاء الثابت، والسمع، والطاعة في المنشط، والمكره، والعسر، واليسر .
وكل ذلك يمتد إلى ولي عهده الأمين، وولي ولي العهد . جعلهم الله مباركين أينما كانوا، وموفقين أينما حلّوا .
والله المسؤول أن يحمي بلاد الحرمين الشريفين، ومأرز الإيمان، ومثوى الجسد الطاهر، ومنطلق الدعوة من كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، إنه ولي ذلك، والقادر عليه .