يقول أبو ذؤيب الهذلي:
(إذا بني القبابُ على عكاظ
وقام البيع واجتمع الألوفُ)
عكاظ في الجاهلية مبعث منافرة، وزناد حرب، تحفّزها عادات الجاهلية، وعلى أرضه تختضب أفكار العرب وآدابهم، يتصدّرها كيان الضاد تتنازع القبائل ارتداءة والنبوغ فيه، يقول أمية الخزاعي:
ألا من مبلغ حسّان عني
مغلغلة تدبّ على عكاظ
ويقول المُخبّل مفتخراً
ليالي سعد في عكاظ يسوقها
له في كل شرق من عكاظ ومغرب
شهدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صبي يستمع إلى قس بن ساعدة وهو يخطب، وشهدها فتيّا يناول أعمامه السهام يوم (الفجّار). وفي الإسلام كانت عكاظ مزارا للقبائل، فكان صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم رسالته، وقد أقرّ عليه السلام استمرار السوق ونشاطها إلى أن طبّق الإسلام أنحاء المعمورة في عهوده الزاهرة.
ولما أن كانت بلادنا الغالية لا تتوقف عند المرافئ، فقد أخرجت واقع سوق عكاظ، واغترفت من حياض تاريخها سيلا من الإفصاح عن أهمية الارتواء بواقعها الجديد، وأضافت إلى كنوزها الأولى حصيلة هي الآن في فاخر أعوامها الثمانية بمهرجان سنوي مثير للإعجاب والدهشة.
فكانت عالمية سوق عكاظ على أرضها وحدودها مداداً ينبض، وتراثا معتّقا يفوح أريجه بشموخ الموقع، وبريق المحضن.
في سلسلة من التوارد الحفيّ لذلك المكان. لقد أذن الله لعكاظ وسوقها بالانبعاث؛ وشاء لها العودة، فجعلت منها بلادنا صباحات عكاظية جميلة، تُباهي بزوغ الشمس، وتلتقط الصدفات دون مصادفة، بل لُخصت في إحيائه سياسات، واختُصرت أساسات الثقافة، فاستضافت بلادنا في جادته وخيمته المثاقفة ؛حين دعت ضيوفه من خارج البلاد، وجلبت دوائر النقل الثقافي، ممثلة لثقافاتها في مجالات السوق ونشاطاته القادمة من الماضي، فكان تبادل الثقافة مرتكزا لاكتناز النوادر، ولبت عكاظ حاجة الشيوخ والشباب، ولامست طموحاتهم الثقافية وإن تباينت؛ فاجتمع على أرض عكاظ المثقفون، واجتمعت لهم عكاظ، وسكنتهم وسكنوها، وكانت الجادة قوة خارقة تلهب الشعور والمشاعر، وتحرك الأحاسيس، وتوقظ المواهب، أما خيمته فثقافة ومثاقفة، وتوأمة بين قوانين الأدب المعاصر، وبين أمراء الشعر القديم وإن كانوا نبغوا في إمارة صنعوها من أطلال وخيل وليل.
هذه التوأمة جعلت جمهور هذا القرن يلتقون في بلاط عكاظ بالملك الضليل، وصناجة العرب، وابن كلثوم وزهير.
أما مستراد عكاظ، فهمس من وادي عبقر وبوح صداه يتجاوز مداه، وسقف سيادة صحراوية ؛وقف لها العالم مُرحبا، والأدب مُمجدا، والنقد مُرددا: إن الجفنات في شعر حسان غزار ولكنها تفيض عندما تكون جفان.
واحتكمت القبائل على أرض عكاظ في الحرب والسلم، كهيئة الأمم دون (حق النقض) حيث قوة المكان آنذاك ارتباط مشروط لتعظيم المواثيق، كما كان هناك على أرض عكاظ تكافؤ عجيب بين يقينهم بما يفعلون، وبين ما يعتقدون:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضّر إذا أضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
إن عكاظ العصر الحديث عندما انبلج في بلادنا، وأحاطت بجدارة بالاستبصارات الماضية من تراثه العريق كان لابد لنا من وقفة حيال نصيبنا من الغنائم، وأعني به نصيب الجيل من مهرجان عكاظ وثقافاته المتعددة. وكنتُ قد اغترفت من أخباره في نسخته الثامنة هذا العام 1436هـ ملء كفي فارتويتُ، وتحدثتُ مع بعض الناشئة حوله وحسبتهم كذلك، وقد أحرجني واقعهم؛ فإن تجاوزت عن عدم معرفتهم بعمرو بن كلثوم الجاهلي وهو القائل:
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وماء البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الفطام لنا رضيعا
تخرّ له الجبابر ساجدينا
وما أحوج الناشئة إلى تلبس الاعتداد بما يحيطهم في وطن بلغ السماء عزة وكرامة. والأشد من ذلك جهلهم عن شاعر العصر الحديث الوزير غازي القصيبي -رحمه الله- الذي كان مواطناً صادقاً مخلصاً وهو من قال:
بنت الرياض طوانا البين فاستمعي
لسندبادك جاب الكون مشاء
أهيم في عرصات الدار أحسبني
قيسا أتعرف ليلى أنّه جاء
فهل نستقبل فعاليات عكاظ في دور العلم عبر وسائل التواصل ليشاهدها ويستمع لها الناشئة ويحاكوها في برامج النشاط اللاصيفي، كما أشرقت لها قلوب زائري المهرجان ومُشاهدي فعالياته. فكم نحن بحاجة إلى بناء الوجدان كحاجتنا لبناء العقول. هذا نداء إلى سمو وزير التعليم وسيد المثقفين.