الذاكرة فخ منيع يحبس الإِنسان في زوايا التكرار إمعاناً في عذابه.. تحفظ منها أدق التفاصيل وأبشع المشاعر.. في حين تترك الفرح في رف مهمل ولا تراجعه إلا لماماً لا يناسب حجم السعادة التي صاحبتها في حينها.. غريبة هي الذاكرة في تعاملها غير المنصف بين الذكريات الجميلة والأخرى الحزينة.. ربما تعتبر الحزن أكثر إِنسانية وترى الفرح ترفاً لا يليق بكوارث الإِنسان التي يمارسها ضد البشر والأرض والسماء.. مُضحك فزعها عند نسيان معلومة غير مهمة.. كاسم شارع أو فيلم أو شخص عابر.. ترتبك وتنتفض وتغضب كأنما أهينت لأنّها فقدت ذكرى تافهة.. وتثور في داخل الإِنسان وتحاول أن تثبت أنها لا تفوت أمراً.. وإذا قررت أن تترك الأمر كونه سخيفاً لا يستحق العناء.. أتتك بالمعلومة سراعاً كأنها تقول: لم أنسَ!
كيف للذاكرة أن تمنح الألم تلك السطوة والتحكم والإحساس المفرط.. بينما ترمي فتات من الشعور للفرح.. فمن منا استطاع أن يتدخل في عملها اللئيم.. ومن استطاع أن يوازن بين كفتي الذاكرة..!
يبدو أن استدعاء الذكريات من مرقدها تلقائي في الألم.. بغرض الحماية من مواقف مشابهة.. وتجنبناً لإعادة تجربة مريرة.. لكن الذاكرة هنا تتدخل بدافع أبوي سلطوي.. تمنعك من التغيير.. فالعالم يخضع لقانون الاختلاف وليس التشابه.. الأول منطقي والثاني عارض يمكن أن يحدث ويمكن ألا يحدث.. وإن تشابه ظرف المكان فإنَّ الزمان مختلف.. هذا التصرف منها يخنق الشهية مرة بعد مرة إلى أن تفقدها وتعيش العزوف عن خوض تجارب مشابهة استناداً على الخيبة الأولى!
رغم أن الخيبة نتيجة متخفية لا يمكن لمسها إلا بالممارسة.. في كل محاولة للتجربة تستبدل بحكمٍ مسبق.. وجريمة محتملة قيدت ضد المتهم الأول من حكاية قديمة.
لذا.. راقب ذكرياتك.. وابدأ مراناً جديداً لاستدعاء الذكريات الأجمل من حياتك.. تعلم كيف تنبش الذاكرة بهدوء.. وابحث فيها عن تفاصيل التفاصيل.. علمها كيف تقدم إفادة كاملة عن الحب الماضي والفرح والصداقة وكل أمر أسعدك يوماً.. كرر النشوة ألف مرة كما كررت الوجع مليون مرة دون جدوى.. افعلها نكاية بتدخل الذاكرة في قراراتك الجديدة.. إذا كسرت سوار الحماية خرجت من جحيم الاحتمالات القاتمة.
تعلم أن تمسك برسن الذاكرة.. وتخلص من لعنة الماضي وخيباته.. فالعمر أقصر من أن يعاش في سجن الذاكرة.