قد لا يختلف الكثير منا على أننا اليوم أمة في وضع لا تحسد عليه، أمة في حالة ضياع تام، وإذا استمر الحال على ما هو عليه فنحن ربما مهددون بالاندثار الحضاري. والمؤرخون يذكرون بأن الخطوة الأولى لاندثار الأمم وتشذرمها هي فقدانها هويتها. ومن يعتقد أن هذا التدمير وليد الصدفة أو حصاد لظروف معينة عابرة مررنا بها فهو ربما مخطئ،
إذ إن هناك مؤشرات كثيرة تشير بأن ذلك تم بناء على سياسات ممنهجة طويلة النفس، وأسهم فيها - وللأسف - أعداء لنا اعتقدنا ألا من صداقتهم بد.
التاريخ الحديث يشهد بأن العرب تحرروا اسمياً فقط من حكم تركي كان فاسداً للنخاع ولم يكن يملك من سمات الخلافة الإسلامية إلا اسمها فقط. حكم دمر تركيا ذاتها قبل أن يدمر الدول العربية التي كانت تحت سيطرته. فتاريخ الخلافات (من خلافة) الإسلامية توقف في تركيا، وبدأ العرب بعد الاستقلال يحسون أنهم أمة عربية واحدة بعد خمسة قرون من اعتقادهم بأنهم عرب عثمانيون. ولم يكن في الجغرافيا العربية عند استقلالهم من تركيا إلا بقايا حضارات سابقة وشواهد إسلامية قاومت الزوال، ولغة واحدة مهملة، فالعثمانيون في ما عدا توسعة للحرمين لم يخلفوا للعرب إلا الجهل والمرض.
ثم استلم المستعمرون البيض راية إدارة العرب، بريطانيا وفرنسا وكذلك ألمانيا حتى أنهم تحاربوا فيما بينهم في أوربا حول النفوذ في بلادنا، ولكنهم اتفقوا رغم خلافاتهم على تأسيس كيان صهيوني في أجمل أرض عربية مواجهة لهم مباشرة. فهذه الدولة وليدة معتقد وليس سياسة. فخلاف لما يعتقد، ألمانيا النازية أيضاً أسهمت عبر معاهدة في عام 1933م، بعد أشهر قليلة لهتلر في السلطة، بدعم الهجرة إلى إسرائيل باتفاقية سميت «الهافارا» أو «اتفاقية التهجير» مقابل وقف الدعوة اليهودية العالمية لمقاطعة ألمانيا. ويقال بأن اليهود المهاجرين الألمان المتعلمين هم من أسهم في تنظيم الدولة اليهودية الحديثة التي كان غالبية سكانها من يهود مهاجرين من أوربا الشرقية أقل تعليماً وتأهيلاً. بيت القصيد هو أن الغرب شماله وجنوبه، غربه وشرقه كله دعم إسرائيل، فإسرائيل قضية جهاد غربي مسيحي مستمر حتى اليوم.
خلال ذلك كان العرب مخدرون بشعارات أيقنوا بها وتقول دائماً إن إسرائيل كيان زائل حتماً، وأن العرب سيلقون بها في البحر في أقرب وقت، فهي مجرد مليوني لاجئ غريب في بحر من مئات ملايين العرب. وتحولت كثير من الدول العربية إلى ترسانات لمخلفات الأسلحة الغربية والشرقية الفاسدة استعداداً لهذا اليوم الموعود، القضاء على إسرائيل وتحرير بين المقدس. ولكن الشعوب العربية، وربما ليس الأنظمة، فوجئت بأن إسرائيل تشن هجوماً مباغتاً تقضي فيه على الجيوش العربية المحيطة بها بشكل مهين في ستة أيام فقط في 7 حزيران 1967م، وهو العام الذي أطلقوا عليه حينئذٍ عام «النكبة» لأنهم اعتقدوا أنها أسوأ ما يمكن أن يحل بهم، وأنها محنة لا محالة إلى زوال. ثم استمر تكديس السلاح مرة أخرى «لإزالة آثار النكبة»، ومن ذلك الحين وأسلحة إزالة النكبة بما فيها - للأسف - القوى المختلفة لتحرير فلسطين يستخدم سلاحاً للاحتراب الداخلي فقط. هذا الفشل المريع في إزالة آثار النكبة تحول إلى نكبة أكبر، أو فلنقل فرّخ نكبات أخرى مصدرها الاختلاف حول أسباب الفشل في إزالة آثار النكبة. ودخل العرب في مرحلة حرب طواحين تدور في معظمها حول تبادل اللوم والاتهامات حول النكبة، بل إن بعض العرب استعان بإسرائيل ذاتها في حربه مع منافسيه نتيجة خلافه حول معالجة النكبة، أي بمنطق آخر، استعان بالنكبة لإزالة آثار النكبة. والواقع أن تكديس السلاح المتخلف وسيطرة العقليات العسكرية كان أكبر نكبة للتعليم والتنمية في التاريخ العربي.
عشرون عاماً مرت ولم يطلق على إسرائيل رصاصة واحدة، بل إن إسرائيل هي من تقوم بشن حروب مجانية بين فينة وأخرى من قبيل المناورات من طرف واحد تتأكد فيها من جاهزية جيشها، ولتذكّر العرب بشكل مستمر بأنهم ما زالوا في نكبتهم، وتدريجياً رسخت لديهم عقدة خوف تجاهها لم يفيقوا منها بعد. ثم ظهر من بيننا من يدعي أنه اكتشف الأسباب العميقة لهزائمنا، وهي أننا اعتبرنا أنفسنا عرباً أولاً ومسلمين ثانياً ونسينا الخلافة الإسلامية. وبدأ كثير من شبابنا مرحلة الجهاد لإثبات أن الإسلام سينتصر لأن المعجزات الإلهية تريد ذلك. ثم ظهر أوصياء وأولياء إسلاميون جدد يصولون ويجولون في كل مكان إلا في مواجهة السبب الحقيقي للنكبة (إسرائيل). حتى أن أحد هؤلاء الزعماء وهو فلسطيني الأصل كرس مفاهيم إيديولوجية مفادها أن تحرير فلسطين والمسجد الأقصى يمر من كابل! ولا ننسى بالطبع إطلالة قوة كبيرة دينية في المنطقة هي إيران عززت الفرقة والضياع الإيديولوجي الإسلامي بنبش أسوأ القضايا الاقتتال التي أحترب حولها المسلمون في تاريخهم، وأسهمت في دمار حضارتهم، وحولت ذلك إلى إيديولوجية توسعية. وبعد سقوط السوفيات بشرت إيران والجهاديون بزوال إسرائيل لأنهم أسهموا في سقوطه، بينما الحقيقة توضح بأن إسرائيل أكبر مستفيد من ذلك، ويكفي أنها ضاعفت عدد سكانها بمستعمرات في الأرض العربية بمهاجرين روس.
المخابرات العالمية التي اخترقت العسكر، والقوميين، واليساريين، والإسلاميين لمعرفتها بأن إيديولجياتهم هي استهلاك لفظي ظاهري لتغطية مصالح خاصة فقط، وجدت من السهل اختراقهم وأخذت بالتلاعب بمنطقتنا تحت مسميات وأوصاف شبه دبلوماسية مختلفة. ثم وجدت فيما بعد حال المصالح الخاصة هو الثابت الوحيد في عالم سياستنا والمتغير هو شكل هذه المصالح، وأن ما كان تعصباً قومياً في السابق تحول لتعصب ديني ومذهبي يحقق مصالح فردية ومرحلية. فتحولت منطقتنا إلى فسيفساء إسلامية من المذاهب والفرق والإيديولوجيات الإسلامية المخترقة التي تحقق من حيث تدري أو لا تدري المصالح العليا لإسرائيل. ثم أحُتل العراق ودُمّر، وكانت الموساد أول من دخله لنهب آثاره وكل ما خف وزنه وغلا ثمنه، وقُتل علماؤه ومحيت هويته. بعد ذلك أتى الربيع العربي ليأتي على ما تبقى من تضامن وتنظيم ليحقق نتيجة واحدة فقط وهي إزاحة آخر الحواجز الوطنية أمام رغبة سيطرة جامحة للحركات الإسلامية التي نهبت السلاح والمال المتاح لتحقيق حلم أسلمة البلدان العربية وليس مقاومة الغزو الصهيوني الذي كان المبرر لإنشائها. ومع ازدياد سيطرة هذه الحركات بدأت بالاقتتال فيما بينها بافتعال خلافات هامشية لا تقدم ولا تؤخر، وبدلاً من أن تأتي بإسلام صحيح يقضي على الفرقة، ويحل السلام ويعيد للإنسان حريته وكرامته كما فعل الرسول الكريم، أعادت العالم العربي لمرحلة من الجاهلية أسوأ من الجاهلية الأولى قبل الإسلام. ففي الجاهلية الأولى كانت للعرب آداب وسلوك في الحرب والسلم، وكانت الاتفاقات والعهود تحترم والحرمات تصان، فدخلنا في مرحلة من الجاهلية لا عهد فيها ولا ذمة.
واليوم نعود إلى مرحلة ما تحت الصفر مجدداً، نعود لمرحلة التنبؤ المضحك، والرؤى الرغبوية الحالمة غير الواقعية التي ترى قرب زوال إسرائيل. ومن يتنبأ بذلك؟ متعاطفون مع حركات تدعي الجهاد وتقتل الأبرياء على الجانب المسلم فقط من الحدود الإسرائيلية. فصائل تقاتل بعضها خلافياً، وخليفياً، ومذهبياً وغنائمياً ولكنها لا ترى مطلقاً الحدود الإسرائيلية ولا القدس ولا المسجد الأقصى اللذين تم تهويدهما بالكامل. فقتلُ الأخ المسلم من طائفة أخرى أو هدم مقدساته ومساجده أمر لا بد منه لتحرير الأقصى وتحرير فلسطين، أما إسرائيل فقد بدأ العد التنازلي لزوالها!!! والحقيقة المؤلمة المغيبة والتي عميت أعين الكثير عنها هي أن ثلاثاً من كبرى الدول العربية هي التي زالت وليس إسرائيل. أما إسرائيل فهي تنظر لحدود الدول المجاورة التي سقطت ودمرت وترى من خلف هذا الدمار الذاتي حلم إسرائيل الكبرى، يومئذٍ سيفرك العرب أعينهم من الدهشة بعد فوات الأوان، وسيخرج من يقول إن بروز إسرائيل الكبرى ضرورة لنبؤة أخرى في سلسلة النبوات والخرافات التي نسلي أنفسنا بها، وأنها علامة من علامات قرب زوال إسرائيل!!