إن المتتبع للحراك الإيراني بعد تورثه عام 1979، يدرك أن الفكر الاستراتيجي له مظهران؛ المظهر الأول ويتمثل في العنف ويصاحبه سلوك دموي، والمظهر الثاني ويتمثل في التلطف والتودد وربما يصل الأمر إلى الاستجداء بالآخر.
وهذان المظهران يتغيران وفق معطيات الظروف المحيطة به؛ للوصول إلى مجموعة من أهدافه الآنية والمستقبلية، والشواهد كثيرة لا حد لها. وأزمة النفط الحالية جعلت النظام الإيراني يلجأ إلى المظهر الثاني في حراكه السياسي والإعلامي.
وصفت أزمة انخفاض أسعار النفط الحالية بأوصاف مختلفة، كلها تتفق -كما تدعي- في أن المستهدف هو إيران، وصفها توماس فريدمان الكاتب الأمريكي المتخصص بشؤون الشرق الأوسط بحرب النفط الذي تشنه -وفق مزاعمه- المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا وإيران كما نشرته صحيفة عاجل في 15 أكتوبر 2014، ووصفها وزير النفط الإيراني بيجان زنغته بالمؤامرة السياسية، واعتبرته صحيفة الشرق الأوسط بأن ورقة النفط تسقط مخططات إيران في المنطقة في 22 أكتوبر 2014، وأسمتها شبكة رؤية الصادرة في 29 ديسمبر 2014 بأداة ضغط لإخضاع روسيا وإيران.
ومن نتائج هذه الأزمة اتخاذ النظام الإيراني خطوات مختلفة ومن بينها: الاستعانة بقطر والكويت لمواجهة تراجع أسعار النفط وذلك وفق ما نشرته صحيفة الخليج الجديد الصادرة في 11 نوفمبر 2104، وتأثر حلفاء إيران من العرب وخاصة الحوثيين في اليمن نتيجة وقف دعمها المادي لهم وذلك وفق ما نشرته صحيفة العرب في 21 ديسمبر 2014، وإعفاء أعداد هائلة من الخدمة العسكرية أو بيع بدل التجنيد الإجباري كما نشرته صحيفة سبق في 22 ديسمبر 2014، والاستعانة بفنزويلا لدعم أسعار النفط، وذلك وفق ما نشرته صحيفة كلام وأخبار في 10 يناير 2015، والضغط على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لزيارة السعودية للاستجداء بها، وذلك كما نشرته صحيفة العرب في 12 يناير 2015، ولجوء إيران إلى صندوقها السيادي كما جاء في صحيفة Business Echoes في 13 يناير 2015، والتهديد الصريح للرئيس الإيراني للدول المتسببة -كما يزعم- في انخفاض سعر النفط بأنها ستندم، وذلك وفق ما نشرته صحيفة روسيا العربية في 14 يناير 2015.
وإذا كانت النتائج السابقة على المستوى السياسي، فإن لوسائل الإعلام الإيرانية محاولة؛ لاحتواء أزمة النفط، ولكن هذه المرة ليست بلغة التهديد، وهي اللغة المعهود عن النظام الإيراني الحالي، وإنما بلغة التلطف والتودد؛ بقصد التقرب إلى «الخصم التاريخي» أي السعودية، وهو الإجراء الجديد في النهج الإيراني في الفترة الراهنة.
فقد طالعتنا صحيفة وطن الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية في 12 يناير 2015 بأن هيئة الإشراف على الصحافة الإيرانية قررت إحالة صحيفة «وطن مروز» إلى المحكمة بسبب نشرها عنواناً في صفحتها الأولى يوم 6 يناير 2015 يسخر من العاهل السعودي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله-، أو إعلان نشرها خبراً كاذباً عن وفاته ووصفته بأن العنوان يتعارض مع العلاقات مع الجيران أو يسيء لدولة جارة.
هذا التوجه الأخير لإيران هو بمثابة تخدير للجانب السعودي، أمام انخفاض أسعار النفط، وإذا كانت الحكمة تقول المضطر يركب الصعب وقد ركبته إيران، فإنها واهمة إذا اعتقدت بأنها قد تقربت من وجدان الجانب السعودي، فالتاريخ المعاصر البعيد والمنظور شهد ولا يزال استفزازات إيرانية في داخل السعودية وعلى حدودها مع جيرانها يجعل إعادة بناء الثقة بها من المستحيل.
كما أنها واهمة إذا تصورت بأن قوتها العسكرية باعتبار تعدادها يتجاوز 700 ألف جندي موزعين على القوات المسلحة الإيرانية قد جعلت منها قوة إقليمية ضاربة، فأزمة النفط أثبتت ضعف الاقتصاد الإيراني، وواهمة إذا تصورت بأن حجم سكانها والبالغ 75 مليون نسمة يمنحها الحق في اتخاذ لقب الأخت الكبرى لدول الجوار، فتعدد العرقيات بها يشير إلى هشاشة التركيبة السكانية. كما أنها واهمة إذا اعتقدت أنها محصنة من جهة حدودها فيمكن الاستفادة منها كأذرع كما استفادت هي من العراق واليمن كأذرع لها.
لقد أثبتت الأحداث، خصوصاً الراهنة منها، بساطة الفكر الاستراتيجي لإيران، الأمر الذي جعل الفكر الإنساني المعاصر ينظر إليها على أنها دولة عنف وتخلف عقائدي وانحطاط اجتماعي، وحتى ترمم إيران الثقة بها من قبل دول الجوار، فإنها لا تحتاج إلى معاقبة صحيفة أو إعفاء وزير، أساء إلى رمز معين، وإنما تحتاج إلى مراجعة شاملة في مقومات الفكر والسلوك لديها.
حفظ الله المملكة العربية السعودية، ورزقها الحكمة في حراكها، وجعلها من قوة إلى قوة، وجعلها في يقظة مستمرة داخلياً وخارجياً، ونفع بأبنائها البررة، وجعلهم كالبنيان المرصوص.. آمين.