انتظرت زميلي لحاجة ماسة بالعمل، فقال لي أحدهم بخبث: إنه لن يأتي بعد خسارة فريقه في مباراة النصر والهلال ليلة البارحة.. فضحكت ببلاهة أظنه يمزح، فالزميل بدرجة عالية من الرزانة والثقافة. ومن غد، سألته هل سبب غيابك هو نتيجة المباراة؟
فقال لي بابتسامة غامضة: غير الموضوع! بعدها نسيت الموضوع تمامًا، إذ لم أصدق أن سبب الغياب هو خسارة الفريق الذي يشجعه صاحبنا حامل الدكتوراه، وبالأساس لم أكن أعرف أن أحدًا يغيب عن عمله بسبب خسارة فريقه، حتى وصلتني بعدها بأيام دراسة من مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني حول ظاهرة التعصب الرياضي داخل المجتمع السعودي.
أول ما لفت انتباهي في نتائج الدراسة وذكرني بغياب زميلي، هو أن 6 في المئة من عينة الدراسة يتغيبون عن أعمالهم في اليوم التالي للمباريات التي تخسر فيها فرقهم الرياضية، بينما 8 في المئة منهم لا يخرجون من منازلهم. تلك نسبة كبيرة بما أن العينة عامة داخل المجتمع السعودي، إذا اعتبرنا أن الرياضة صورة مصغرة للمجتمع، كما قالت الرياضية الأمريكية بيلي كينج.
هنا عدت بسؤال جاد، هذه المرة، للزملاء: هل من المعتاد تغيب موظف عن عمله بسبب خسارة فريقه؟ فكانت الإجابات مع الضحكات علي: طبعًا! قال البعض إن التعصب وصل لبعض المدرسين وانحيازهم تجاه الطلبة حسب ميولهم الرياضية؛ وقال آخرون بل وصل إلى قلة من أئمة المساجد بالدعاء المنحاز لأحد الفرق الرياضية؛ كأن الطائفية لا تكفينا عللاً! أحدهم قال بحرقة: الله يعينك إذا خسر فريق مديرك سيأتيك عصبي، ويا ويلك ويلاه إن كنت نصراويًا أو هلاليًا ومديرك عكسك!!
صدمتني الإجابات، ولمت نفسي، إذ كأني أعيش في كوكب آخر. قلت لنفسي تلك مهمة عسيرة تحتاج لدراسات جادة، مثل دراسة مركز الحوار الوطني. الدراسة ذكرت أن النسبتين المذكورتين أعلاه متدنية ولا تشكلان ظاهرة، غير أنها مؤشر سيء لما قد تؤول إليه مشكلة التعصب الرياضي، واحتمال خروجها عن معدلاتها الطبيعية.
من النتائج التي أثارتني بالدراسة أن نسبة 22 في المئة ذكرت أنه حتى مع تدني مستوى فريقها فإنه الأحق بالفوز دائمًا. هذا يعني أن أكثر من خمسنا دماغه يفكر غريزيًا بلا عقل، وتلك نسبة تدعو للقلق. ذلك سيؤدي إلى نتيجة غير محببة وطنيًا، إذ ذكرت نسبة 23 في المئة أنها تتمنى خسارة كل الفرق المنافسة لفريقها بالمنافسات الخارجية! وحتى في الدائرة الضيقة اجتماعيًا، هناك من قاطع أحد أصدقائه بسبب تشجيعه للفريق المنافس (6 في المئة) أو حتى أحد أقربائه (3 في المئة).
المضحك المبكي أن نحو نصف الإجابات ذكرت أن من أسباب التعصب الرياضي هو الفريق الخصم الذي يسيء لفريقها بكثرة! وأكثر من الثلث ذكروا أن منسوبي الفرق المنافسة يتعمدون الإساءة لفريقهم! ونحو ربعهم ذكر أنه يتم انتقاء الحكام المتحيزين ضد فريقهم، وتتم استضافة الإعلاميين بكثرة لمهاجمة فريقهم! أي أن الآخرين يتعمدون الإساءة لفريقي، ويتم اختيار حكام ضد فريقي، ويدعى إعلاميون لمهاجمة فريقي.. هنا يباع العقل ولا يشترى!
يا شباب، كيف نحد من التعصب الرياضي؟ 95 في المئة قالوا بتطوير أداء المنتخب الوطني؛ و90 في المئة قالوا بإيقاف كل إعلامي يثير التعصب الرياضي؛ وبسن قوانين تجرم التعصب (84 في المئة)؛ وبإلزام الفريق الخاسر بمصافحة الفريق الفائز (80 في المئة)؛ وبإلزام اللاعبين بتبادل قمصانهم بعد كل مباراة (61 في المئة).
خلاصة الدراسة أن ثمة رغبة في أوساط المجتمع للحد من ظاهرة التعصب الرياضي، عبر ضبط البرامج الرياضية التي تثير جماهير الأندية وترفع من حدة التعصب الرياضي، ووضع قوانين رادعة لمثيري التعصب من مشجعي الأندية أو منسوبيها. لكن الدراسة لم تتعرض لحالة الشغب ما بعد المباراة، وما نعرفه من تجنب الناس الخروج للشارع وتعطيل مصالحهم خشية طيش الشباب المنتشي بفوز فريقهم ومشاجراتهم للآخرين، فضلاً عن تضييقهم لحركة المرور، ويأس رجال المرور من ردعهم..
فماذا تقول الدراسات العالمية؟ التعصب الرياضي الذي يقود للشغب يأتي من عدة عوامل مرتبطة بالتفاعل الاجتماعي والهوية والشرعية والسلطة. وهي عمومًا تعكس التعبير عن العلاقات العاطفية القوية المرتبطة بالفريق التي قد تساعد على تعزيز الشعور بالهوية. أما أهم الأسباب الرئيسة على المستوى العالمي فهي وسائل الإعلام، وتخاذل الشرطة خارج الملعب، وتهاون السلطات داخل الملعب.
كيف عالجت بعض الدول التعصب والشغب؟ في بريطانيا كانت الظاهرة مزعجة قبل ثلاثين سنة، لكنها اضمحلت بسبب إصدار أوامر صارمة تجاه المشاغبين، كما حظرت مظاهر الشغب أو الأدوات التي يمكن استخدامها لقذفها على الآخرين، وجدية الأنظمة داخل الملعب التي وصلت لوضع سجلات بأسماء المشجعين مثيري الشغب ومنعهم من دخول الملاعب، كما أن الشرطة أصبحت صارمة تجاه «طيش الشباب» خارج الملعب. إضافة لتسهيل حركة الدخول للملعب ومنع اكتظاظ الحشود كيلا يتصادم المشجعون المتنافسون ببعضهم، وفصلهم داخل وخارج الملعب. أخيرًا ارتفاع سعر التذاكر مما أدى لابتعاد الشباب العاطل، لكن ذلك أدى لمظاهرات في بعض الدول كالبرازيل. وعلى المستوى الأوروبي اتخذت العديد من التدابير المشابهة لبريطانيا..
التحمس للفريق الرياضي مسألة طبيعية متصلة بغريزتي الانتماء والمنافسة خاصة عند الشباب الباحثين عن ذواتهم وهويتهم داخل المجتمع، وقليل من التعصب الرياضي المسالم يعزز الشعور بالانتماء داخل الجماعة، أو ما يطلق عليه «غريزة القطيع» البدائية، وليس هذا المصطلح مذمة بل وصف لغريزة طبيعية تقوم التنظيمات الرياضية بتهذيبها عبر ضبطها في منافسات ودية، أما زيادة التعصب فهو من الأعراض الجانبية التي قد تنزلق فيها تلك الغرائز إلى حالة الهمجية البشرية البدائية. اللعب والرياضة ليستا مجرد تسلية بل أيضًا اكتشاف عظيم لمهاراتنا، حتى أن المفكر الاجتماعي جوزيف بيرس عد اللعب هو أفضل طريقة لإمكانية اكتشاف أعلى القدرات البشرية أكثر من التربية والتعليم.
عدت لزميلي الطيب الذي غاب عن العمل بسبب خسارة فريقه، وسألته لماذا غبت؟ قال: يا أخي يتسلط عليك مشجعو الفريق الخصم بالنكت وبعضها وسخة، وباستهزاء وتعليق ما له داع.. ولا أريد المشاحنة مع أحد.. فأيهما أفضل ضغطي يرتفع حد الانفجار أم غياب يوم عابر من جملة الأيام!؟ قلت: يا صديقي، لا أدري هل أهنئك على ابتعادك عن مشاحنتهم أم ألومك على تأثرك بكلامهم.. أما العمل فالشكوى لله، إذا كان فريقك كثير الهزائم!