وفاءً بوعدي الأسبوع الماضي بأن أوافيكم بمختصر للبحث الذي قدمته بالمركز العربي للبحوث ودراسة السياسات في مؤتمر دول مجلس التعاون الخليجي السياسة والاقتصاد في ظل المتغيرات الدولية, فإني أستعرض في هذا المقال أهم محاور البحث.
جاء العمل بعنوان بحثي يحاول أن يخلق نوعاً من الإثارة المعرفية في عقل الباحث والقارئ معاً.. وقد خالفت فيه العنوان المقترح من قِبل إدارة المؤتمر الذي كان يقصر الموضوع على البحث في الأثر الاقتصادي للنفط على المرأة، وآثرت أن يحمل البحث عنواناً مغايراً هو: النفط والنساء - أوجه تأثير النفط على النساء بالمجتمع الخليجي - الحالة السعودية.
مستفتح الورقة
) قد يبدو العنوان سريالياً، فنادراً ما تُؤنسن علاقة النفط بمحيطه البشري, في ظل خضوعها لسيطرة الساسة والسوق وأرباب رأس المال وجنرالات الحروب.
)ربما الأندر أن يكون هناك منحى تساؤلي ليس فقط لإنسنة النفط بل عن البعد الأنثوي لتلك الأنسنة, فالمعتاد هو أن النفط مثل الحرب شأن ذكوري لا يعني إلا الجنرالاااات على مختلف رتبهم في سلَّم العلاقة السلطوية.
) غير أن دهشة العنوان في إيحاءاته الإنسانية والأنثوية معاً ليست إلا الهالة الشفيفة التي نأمل أن تثير الفضول المعرفي للتساؤل بحثياً عن أوجه تأثير النفط على النساء.
) تقول ليندا جيين شبرد في كتابها أنثوية العلم بمقدمته التعريبية ليمنى الخولي, كم خسر العلم بغياب النساء عن بداياته التأسيسية ومساراته الاستكشافية.. وتقول قولاً قريباً من هذا الرأي خديجة العزيزي في كتابها الأسس الفلسفية للفكر النسوي الغربي.. ولا أظن فاطمة مرنيسي في علم الاجتماع والإنثروبولوجيا وفريدة بناني وآمال جراملي في الحقل الفقهي والحقوقي وعزيزة هبري وليلى أحمد ومضاوي الرشيد وحُسن عبود وإصلاح جاد ومنيرة الغدير وهدى الصدة وأميمة أبو بكر وسواهن إلا ويقلن قولاً مشابهاً في حقولهن الأكاديمية المختلفة وفي محاولتهن لإعادة قراءة المعرفة العلمية والفقهية والفلسفية والأدبية من وجهة نظر نسوية إنسانية.. وربما نستطيع اجتراح تساؤل مشتق من تلك المواقف النقدية, بأن نتساءل كم خسر النفط باستبعاد النساء.. والمقصود هنا سواء بأطروحة استبعاد النساء عن العلم, الفلسفة والفقه أو النفط هو الإشارة إلى تلك الخسارة المعرفية التي كان يمكن أن تشكّل إضافة على تلك الحقول بإدخال المكون الأنثوي عليها.. ولا نعني بالمكون الأنثوي ذلك المتمثل في التعبير عن وجهة نظر النساء أو تمثيل مصالحهن فقط، بل نعني أيضاً ذلك المتمثل في تجارب النساء الحياتية ببعديها الذاتي والعام.. كما نعني بالحس الأنثوي ذلك الفيض الإنساني الخاص في ذات الأنثى المتمثل في القدرة على تلوين تلك الحقول بما في الأنوثة من ألوان دافئة وصاخبة وبما تملكه من ملكات الليونة والمرونة والاستشعار المبكر والاستبصار الحدسي.
موضوع الورقة
) تناول البحث علاقة النساء والنفط في تعالقها مع السؤال السياسي ومع السؤال النسوي, إذ نعتقد بما يستحق التحقق أنه لا يمكن قراءة سؤال النساء والنفط خارج سياق المنظومة السياسية والواقع النسوي.
) جرى طرح الموضوع في الإطار العام لواقع دول مجلس التعاون كدول ريعية قامت على البنى التقليدية للسلطة وعلى المداخيل النفطية العالية.
) تم بحث الموضوع أيضاً في ضوء واقع مجتمعات الخليج الذي اعتمد فيه تطورها ونموها العمراني والسكاني على رعائية المداخيل الريعية, كما جرى تشكيل وإعادة تشكيل هويتها الوطنية وميزان قواها الاجتماعية تحت طائلة المدّ والجزر النفطي في بعده المحلي والإقليمي والدولي.
) قام البحث بانتخاب الحالة السعودية لبحث سؤال عن أوجه تأثير النفط على النساء خليجياً.
أوجه تأثير النفط على النساء
من خلال العمل الميداني الذي تمثّل في نوعين من العينة.. عينة عشوائية عامة, وظّفتُ بها مجموعات الواتساب بالحصول على إجابات المبحوثين لباقة من الأسئلة المغلقة في موضوع البحث وعينة قصدية نخبوية عبر ما يُسمى بالمجموعات المركّزة لعدد من أساتذة جامعة الملك سعود وطالبات الدراسات العليا استطاع البحث أن يضع يده على عدة أوجه لتأثير النفط على النساء.. ومع أن أغلبها يُعتبر ذا تأثير عام على المجتمع برجاله ونسائه إلا من المهم لفت النظر لأوجه تأثير النفط على النساء، خلافاً لما جرت العادة عليه من عدم إعطائه الأهمية التي تدخله في معادلة أي معالجة للقائم أو في عملية أي تغيير منشود.
وأوجه التأثير تحددت بالمجالات التالية:
تأثير اقتصادي, تمثل في دخول النساء شخصياً إلى سوق العمل، وإن ما زالت محدودة مجالاته إلا أنه شكّل دخلاً مستقلاً غير معهود لنساء الخليج والسعودية، وتمثلت تأثيراته في عدد من الأوجه الذاتية والاجتماعية مثل زيادة الدخل, انخراط النساء في نمط الحياة الاستهلاكية بأكثر أشكاله استشراء وشراهة وتوسيع أو تضييق الفجوة في الدخل بين نساء العائلة الواحدة وليس فقط بين الأسر, توليده لأنماط جديدة من العلاقات والسلوك في علاقة المرأة بذاتها وبالدولة والمجتمع، وفي علاقة النساء بالنساء.
اقتصادي - سياسي وتمثّل ذلك في سياسة الترحيل والتأجيل لقضايا النساء الساخنة، بل ولتلك الأساسيات من حقوق النساء, كحق المواطنة والأهلية وتمثيل النساء بالأصالة عن أنفسهن لا بالنيابة عنهن.. ويبدو وكأنه كانت هناك سياسة منظمة لاحتواء أثر التغيرات النوعية التي قد تفرزها بعض المتغيرات الكمية.. فلم تحدث تغيرات نوعية لواقع النساء مثلاً توازي الكم الهائل لأعداد النساء المتعلمات تعليماً جامعياً.. ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن محاولات احتواء وامتصاص كل آثار الثورة التقنية التي هدمت عملياً على الأقل في العالم الافتراضي بنية العلاقة التقليدية بين عالم النساء والرجال.
تأثير قيمي, أتاح النفط في حق النساء تحديداً تعايش عدد من القيم المتضاربة.. فقيمة عمل المرأة على سبيل المثال لم تكسب المجتمع تقديراً لقيمة الأهلية التي عادة ما يعززها الاستقلال الاقتصادي والاعتماد الذاتي على النفس والمشاركة الوطنية عن طريق العمل, بل على العكس كرّس قيمة سلبية وهي الطمع براتب أو مداخيل النساء مما صار مجالاً لعضلها أو التطمع فيها ويسمح بذلك بقاء نظام الوصاية على النساء.. فتجاورت القيمة التقليدية لتدني مكانة المرأة مع قيمة العمل بعد أن فرغت من معناها المعنوي والوطني.. ويمكن أن يقاس عليه.. فمثلاً يجري تخويل المرأة في الكثير من الوظائف فهي تكلف بالعمل بينما تحجب عنها الصلاحيات.
نقاط التقارب بين المبحوثين
1 - وجود تأثير للنفط على النساء ويظهر أنه تأثير بالغ وصلت نسبته 99%.
2 - تأثير النفط على النساء إيجابي في أوجه ومتواتر في أوجه أخرى.. ويعود هذا التواتر في معظم إجابات المجموعات وكذلك في حوار المجموعات المركزة بسبب حضور المرأة مع غيابها أي تخويلها التعليم والعمل في نفس الوقت الذي تحجب عنها صلاحياته أو تعامل فيه كقاصر.
3 - هناك اتفاق على أن مجال الحقوق ومجال السياسة ومجال الأهلية ومجال المشاركة الوطنية من أضعف الأوجه التي أثّر بها النفط على النساء.. (وهذا يتفق مع نتائج بحث النساء والإسلام والنفط لميشيل رووس).
4 - أوجه تأثير النفط القيمي جاء الاتفاق على أنه تأثير متواتر أي في شد وجذب.
فبينما اتفقت الإجابات على أن تأثير النفط القيمي قوي جدااااً في مجال استشراء ثقافة الاستهلاك فقد رأت أنه تأثير ضعيف في مجال خلق قيم أسرية بديلة كالتعاون وعدم التواكل على العمال المنزليين وربط وظيفة العمل المنزلي بالنساء.
5 - اتفقت الإجابات على أن مجال الصحة وجه هام ومؤثر من أوجه تأثير النفط، ويتبدّى ذلك حسب الإجماع في تحسين المستوى الصحي للنساء.
6 - هناك إجماع على أن تأثيره إيجابياً على تحسين عموم الوضع المعيشي.
7 - مقابل تلك النتيجة هناك إجماع بنسبة عالية 75% بأن النفط كان عامل تمكين لنساء النخب وليس لعموم النساء.. وعزز هذه النتيجة أن نسبة 90% رأت أن التمكين جاء بشكل تمكين مالي بينما جاءت نسب التمكين في مجال المشاركة السياسية والاستحقاق القانوني أقل.
8 - «الله يطول عمره» هناك توافق بأغلبية ساحقة أنه نظراً لضعف مخرجات النفط في تأسيس قاعدة إنتاجية متينة ومستقلة وفي إدخال النساء لسوق العمل كشريك على قدم المساواة مع الرجل وليس «كجسم إضافي إجباري أو تجميلي», فإنه يصعب تخيُّل العيش دون الموارد المالية للنفط.. وفي رمزية ذكية أشارت إحدى المبحوثات «الله يطول عمره»، وهو اللغز الذي طرحه الملك عبد الله على جلسائه حين قال لهم: قولوا الله يطول عمره.. قالوا: الله يطول عمره ولكن من هو.. قال ألم تعرفووه.. من غير النفط؟؟
نقاط الاختلاف بين المبحوثين
من النقاط التي كانت مثار اختلاف بين المبحوثين النقاط التالية:
شحن النفط القيم التعصبية بالمجتمع ومنها الشوفانية أو الغطرسة على النساء, عمل على إضعاف قيمة المساواة, أخّر التحول لدولة مدنية, ساعد على تكريس الأبوية بمعناها النخبوي والذكوري, أدى إلى تذبذب الأخوة النسوية وخلط أولويات المطالب النسوية بسبب العشم الأبوي في السلطة والتعويل عليها في قرارات التمكين مع ضعف حس المبادرة الوطني على المستوى المجتمعي.. وسّع الفجوة الاقتصادية ومراتب الحظوة بالقرب من مواقع مؤثرة بين نساء النخب وبين عموم النساء.. أوجد تواكلاً على الغير.. على الدولة.. على الرجل.. على المربية.. على العاملة المنزلية.. وعلى السائق.. وهذا جعل جدل علاقة النساء والنفط في علاقة تجاذب بين السلبي والإيجابي ذات طبيعة مراوغة يصعب فيها الخروج بأحكام قيمية في علاقة النساء والنفط، وإن كان لا يصعب الوقوف منها موقفاً نقدياً.
مفارقة غير ختامية
المفارقة أن أكتب هذا البحث فيما أسعار النفط في تدهور، ولم نبل الريق من ماء الطفرة الثانية بعد.