من الخالدية لعبدالله الغذامي
في وقفته الشفيفة الشاهقة
بمنعطف الألم
على طريق الشفاء
في هذه اللحظة الفادحة التي يتوج السرطان فيها تجربة عبدالله الغذامي الروحية والجسدية والثقافية الشاقة والراقية بكل مافي الكون من أكاليل الأمل وبكل مافي الوجود من شرف المقاومة، تموج أمامي أطياف لا متناهية من صور الغذامي على مختلف الجبهات. لتصير مهمة القلب والعقل والمتابع لمسيرته الإبداعية والحياتية مثلي نوع صعب المنال من علم الفلك. فعن أي من تلك الأقمار والكواكب والشموس التي اسمها عبدالله الغذامي أكتب؟؟. وأي من أولئك الرجال من عبدالله الغذامي أكاتب. فعبدالله الغذامي ككل عباقرة العصور الغسقية بما تمتاز به من غموض والتباسات يجمع بين عدد من الأضداد في جدلها وفي تحولها النوعي من جمود إلى حركة ومن ظلمة إلى نور ومن ضيق «الأنساق» بتعبيره الأكاديمي إلى سعة الحرية. كما أنه يعاني من الكبوات المريعة لتلك التحولات في اتجاهات معاكسة وكأنها لن تقوم مرة ثانية لولا موهبة المغامرة التي تجري في دمه وتجعله قادرا على لمس ريشة من طائر الرعد أنى بلغ طوفان الرماد. وأستطيع أن أشير بثقة مفرطة إلى أن أشواك مسيرته في بعدها الذاتي والوطني كانت دائما مشغولة في كل لحظة من لحظات حياته بحرير الأضداد وجروحها، بكل مافي همسها من خرير وبكل مال صخبها من صليل.
عبدالله الغذامي سيد في الأضداد
كان عبدالله الغذامي ولايزال مشتعلا ومشتغلا بتفكيك النقائض وباكتشاف جدلها سواء في عمله الأكاديمي الصارم أوفي مشاغباته الطائشة. إذ نضع أيدينا على ذلك في نقده القاسي كالخطيئة والتكفير ومتوالياتها البنيوية من أعماله النقدية الأخرى، وفي كلماته الرقيقة كتلك التي كتبها عن المرأة الجهنية الجليلة الماجدة والدته قبل وبعد رحيلها. وكذلك نجد تلك الملامح المنحوتة من صخر وديم في كتاباته المجدولة من الجبروت والحنان، مثل كتابته النقدية عن قصيدتي حسناء، ومثل رسائل الجوال والإيميلات الشخصية التي أرسلها لي مغموسة بحب الجهنية وبحب غادة الغذامية من الرياض إلى لندن إبان مواجهتي الشرسة مع السرطان في أوج الربيع العربي عام 2011.
تخصص عبدالله الغذامي في اللغة العربية لكنه لم يكتف في العلاقة معها بطاعة الموالي الأعمى لها المنقطع عما سواها بل تعامل معها بشغف العاشق الذي جمع بين عاطفة الأخذ وبين عاطفة العطاء، بين حس التساؤل وبين شعور الانتماء.
كتب عبدالله الغذامي في النقد الأدبي الحديث ولكنه مالبث أن انتفض مثل رولان بارت وفوكو ودريديا الذين خرجوا من عباءة الحداثة إلى فضاءات مابعد الحداثة في التنظير الأدبي والثقافي عندما ضاقت العبارة على المعنى وعندما صار النص لايخرج فقط على سلطة الكاتب بل يتعداها ليصبح عصيا على كل أشكال سلطة التأويل الأحادية والمركزية.
عبدالله الغذامي بين برزخ النخل ومعدن الصحراء
عبدالله الغذامي ذلك الرجل الطبيعي بخضار بشرته الصحراوي وكأنه مثل أبي نسيج طبق الأصل لمن ولدوا من تواشج لون النخيل الوشمي وكهرمان رمال النفود والدهناء. عبدالله الغذامي ذلك العصامي الذي خرج من برزخ الظمأ والماء.
عبدالله الغذامي بلهجته العنيزاوية النجدية المطعمة بنكهة الحجاز ,المفصحة بما في اللغة العربية من إعجاز يتصل وينفصل في علاقاته بقامات النقد العربي التراثية والمعاصرة معا من الجمحي وبن قتيبة والجاحظ والآمدي والجرجاني وقدامة بن جعفر إلى المازني والرافعي والعقاد وخليل حاوي وإحسان عباس وشكري عياد وسلمى الجيوسي وخالدة السعيد ويمنى عيد وسعد البازعي، بنفس الطلاقة والانفتاح والمنافحات الحميمة والمشاحنات المنتجة.
عبدالله الغذامي ذلك الظمآن القادر على كسر الحوض وتلك الصمان الجوفية القادرة على سقيا فلوات اللغة والنقد والثقافة. لم يشغله مشروعه الأكاديمي المهني في النقد الأدبي عن رؤية التعالق بينه وبين النقد الثقافي والسياسي والنسوي. فصار بتقدم العمر في التجريب وبتجدد الشباب في الرؤية والأدوات يدخل على مجتمع غارق في مشاريعه الصغيرة من الأدبي إلى التجاري ومن السياسي إلى الديني، روح النحت الجامحة في التفكير النقدي كمشروع حياة.
عبدالله الغذامي معلم الشفافية ورمز الأخلاق
كتبت له مرة في لحظات استحكام مد الصحوة على الأجنحة رسالة حانقة على تجنبه تناول تجربتي الشعرية لا بخير ولا بشر، وطفقت ألومه على انشغاله عن تجارب الشباب مما كان في تقديري وقتها سببا إضافيا لاستفراد القوى الظالمة لإنتاجهم بهم وحدهم. وقد أرسلت تلك الرسالة مع نسيبة صديقتي أم إسراء وزوجة أحد أساتذتي بأمريكا وكان قد أصبح جاري بسكن الجامعة، وهو الأستاذ الدكتور نذير العظمة. وجعلت بتحرق أنتظر الجواب. فرغم أنني كنت أراهما/الغذامي والعظمة يتريضان معا بباحة سكن جامعة الملك سعود بالدرعية يوميا، حيث كنت أنزل للعب بملاعب ستة مع أطفالي فإنه لم يكن لنا في حمى تلك البراري الملتهبة أن نقف لنتكلم ولو على رؤوس الأشهاد. غير أن انتظاري لم يطل وجاءني مع نسيبة أيضا الجواب وقد عنون الغذامي رسالته الجوابية لي بعنوان رحب الصدر واسع الأفق يقول: «أهلااااا بالغضب الساطع «. وفيها لم يتورع ذلك الرجل بروح المعلم العالية عن الصراحة بالقول، أن الذائقة النقدية مثلها مثل قوى أخرى بالمجتمع تعاني أحيانا من إعاقاتها في التعامل مع غير المعهود من تجارب الشباب الشعرية والأدبية عموما. ثم أردف في نفس الرسالة بالقول، ولكن الشفاء من إعاقات التمتع بكافة الأشكال الشعرية، مع إرادة الاستبصار ليس مستحيلا ولا عنقاء بل إنه واجب الوفاء بالتزامات الناقد الأخلاقية والأدبية تجاه تجارب الشباب.
عبدالله الغذامي حليف المستقبل متوج الشفاء
عبدالله الغذامي بسيط بساطة رغيف البر معقد تعقيد الوطن في مقاومة أنواع لاتحصى من السرطان. وهو في كل الحالات لايشبه إلا غد يتشكل من عناصر الأحلام.
لقد كان عبدالله الغذامي ولايزال وسيستمر ذلك الإنسان المتعدد القادر على ألا يفقد الطفل البريء الذي طالما لعب بالرمل في القصيم أو على شاطئ أبحر أو بالحوية بالطائف، وألا يفرط في حماس ذلك الشاب المتأجج الذي جمع بين ثقافة القديم والحديث، بين حكمة المتنبي وبين النظر بفتنة للإمام مثل جون أوزبن، مع المحافظة على يقين الأستاذ وشك الطالب. فكان كأنه ولد وترعرع وسيبقى معلما لكل الأجيال. فهو المفرد والجمع، الأصالة والحداثة، المحافظة والتحرر، الشعر والنثر، الماء والنار، الوفاق والجدل، التعدد والوحدة، الريبة والثبات، المستقر والتغير. وفي هذا يصح أن نقول أن عبدالله الغذامي في تجربة المرض الفذة التي يمر بها اليوم سيتقلب من الحرور إلى الفي، من الغمة إلى الكشف ومن الوجع إلى الشفاء ليخرج بإذن الله كعادته في الخروج على طعنات المعارك بهامة مرفوعة وبقامة ممشوقة وبعضلات مفتولة وبروح سامقة سامقة سامقة وبحبر يقطر بلهفة حب جديد وفكر مجدد.
إلى غادة الغذامية وأخواتها
وإلى والدتهم العظيمة
لقد ذكر د. عبدالله في تغريدة سخية له مطلع الأسبوع بأنه يعتبر تجربتي في قهر السرطان تجربة ملهمة. وبقدر مانقلت لي تلك التغريدة من زهو الإحساس بمشترك إضافي من الخبز والحبر بيننا ,فقد شعرت بضرورة الاعتراف له على الأقل بأنني لم أخض تلك المعركة وحدي بل خاضها معي وطن بأسره من القيادة والأصدقاء والقراء والأقرباء والأهل والجيران ومالايحصى من العشاق وكل ذلك كان محفوفا بالكثير من الصدقات والدعاء وبرضا الهاشمية وهي تمد يدها من الرياض لتمسح على صلعتي جراء جرعات العلاج الكيمياوي في مصحتي بلندن. كما خاض المعركة معي وأحيانا بالنيابة عندي كتيبة كاملة من البنات هن ابنتي طفول العقبي. وكتيبة أخرى من الأشاوس هم أبنائي غسان وعبدالرحمن العقبي وشقيقي مشاري وبقية السرب.
ولذا فلا بد أن لا يغيب عن بالي في هذا النص المشتق من دمي أن أشد بيميني وشمالي على أيادي أسرة د.عبدالله يدا يدا على يد زوجته وبناته غادة الغذامية وأخواتها وكل محبيه المقربين فبدون حرير تلك الأيدي وابتهالاتها ولولا فضل الله ماكنا لنستطيع أن ننعم اليوم بمتابعة بانتصاراته المشرفة على هذا المرض اللئيم.
وأخيرا فحين هاتفتني من مكة المكرمة د. أمل القتامية بالخبر الأربعاء الماضي، فقد مضى نصف المكالمة في لملمتي شظايا روحي من صدمة الخبر، بينما مضى نصفها الآخر في الحديث عن اجتراحاته لتأسيس كلمة حرة في حب الوطن وكلمة حرية في حق النساء. ومنها استعادته لذلك الموروث البهي من تأنيث الألقاب. ففعلا حين فتحت عيني كانت عمتي طرفة لاتعرف إلا بطرفة الخالدية وذلك في نجد وكانت أمي لاتعرف إلا بنور الهاشمية وذلك في الحجاز. وكادت تندثر تلك النداءات الأنثوية الممشوقة في طول وعرض البلاد إلى أن جاء إنسان جريء وأخلص في طرح الأسئلة وفي البحث عن أكثر من جواب.
وليس بعزيز على الله أن يكتب على يد الرجل الذي هزم الظلم والظلام نصر دائم على داء السرطان وكل السرطانات الأخرى في حياة الإنسان.